الفكر المناخي
الفكر المناخي
الفكر المناخي القديم
...
1- الفكر المناخي
1- 1- الفكر المناخي القديم:
لما كانت الظاهرات الجوية تؤثر في حياة الإنسان تأثيرًا مباشرًا وسريعًا فقد كان من الطبيعي أن يبدأ الإنسان منذ نشأته الأولى في التفكير في هذه الظاهرات، وخصوصًا الظاهرات العنيفة التي كانت تسبب له متاعب وخسائر كبيرة، مثل الأعاصير والعواصف الشديدة. وقد أخذ التفكير في هذه الظاهرات الجوية يتطور مع تطور الإنسان وتحضره، وظهرت في تفسير هذه الظاهرات أفكار متباينة بين أصحاب الحضارات القديمة التي عاشت منذ أكثر من ثلاثة آلاف سنة، وأهمها الحضارات المصرية والبابلية والآشورية والصينية والهندية. ولكن الأفكار التي سادت بين أصحاب هذه الحضارات كانت أفكارًا بدائية وغير مستندة على أي أسس علمية. وكانت تدور في الغالب حول تفسير بعض الظاهرات الجوية، وخصوصًا الظاهرات التي لها علاقة بالزراعة والهجرة والملبس والمأكل وغير ذلك من مظاهر الحياة.
أما التفكير العلمي في الظاهرات الجوية والمناخية فلم يبدأ إلا في عهد الحضارة اليونانية القديمة، وكان الفيلسوف اليوناني أرسطو من أبرز المفكرين الذين عالجوا موضوع المناخ، ففي سنة 35 ق. م، ألف كتابًا أسماه "المتيورولوجيا Meteoroiogica" ودرس فيه بعض الظاهرات الجوية دارسة نظرية غير مبنية على القياس، وتكلم فيه عن الفصول وترتيبها على مدار السنة. وفي نفس الفترة تقريبًا كان الهنود يقومون بقياس الأمطار بواسطة أجهزة بسيطة ربما كانت هي أقدم أجهزة قياس المطر في العالم. ومنذ ذلك الوقت أيضًا كان للعرب نشاط تجاري بحري كبير. وقد ساعدهم هذا النشاط
(1/9)
____
على معرفة بعض خصائص حركات الرياح في البحار التي كانت سفنهم التجارية تبحر فيها، وأهمها المحيط الهندي وبحار شرقي آسيا، حتى إنهم عرفوا هبوب الرياح الموسمية وعنهم تعلمه اليونانيون عن طريق بعض ملاحيهم الذين اشتركوا في بعض الرحلات التجارية للعرب. ومما لا شك فيه أن العرب هم الذين أعطوا لهذه الرياح اسمها الذي أخذت منه كلمة monsoons الإنجليزية.
وفي هذه الفترة كان اليونانيون قد عرفوا دوائر العرض وعلاقتها بميل أشعة الشمس وما يترتب على ذلك من تناقص في درجة الحرارة من دائرة الاستواء نحو القطبين. ولهذا فقد قسموا العالم على أساس هذه الدوائر إلى خمسة نطاقات هي: النطاق الحار بين المدارين، والنطاقين المعتدلين بين المدارين والدائرتين القطبيتين، والنطاقين الباردين بين الدائرتين القطبيتين والقطبين. قد ظل هذا التقسيم هو السائد حتى أواخر القرن التاسع عشر.
(1/10)
____
الفكر المناخي منذ عصر النهضة الأوروبية
...
1- 2- الفكر المناخي منذ عصر النهضة الأوربية:
في عصر النهضة الأوربية الحديثة "خلال القرنين الخامس عشر والسادس عشر الميلاديين" تقدم الفكر المناخي تقدمًا كبيرًا بفضل الكشوف الجغرافية الكبرى، واختراع بعض أجهزة الرصد الجوي الحديثة، وأهمها الترمومتر الذي اخترعه جاليلو سنة 1593م والبارومتر الذي اخترعه تورشيلي سنة 1643م. ونتيجة لهذا التقدم أمكن ملاحظة أن توزيع الأقاليم المناخية لا يتفق تمامًا مع دوائر العرض، وأن هناك عوامل أخرى تتدخل في توزيعها.
وفي نفس الوقت أفادت دراسات الجو والمناخ من التقدم الذي حدث في العلوم الأخرى ذات الصلة بهما، وخصوصًا في علوم الطبيعة وما تتضمنه من دراسات عن تركيب الغلاف الجوي وظاهراته المختلفة، مثل البرق والرعد والإشعاع الشمسي وغيرها. كما أفادت كذلك من التوسع في النشاط الملاحي بواسطة السفن الشراعية في مختلف البحار والمحيطات التي تم اكتشافها.
(1/10)
____
1- 3- الفكر المناخي منذ أوائل القرن العشرين:
منذ أوائل هذا القرن، كان الاتجاه السائد في دراسة المناخ هو محاولة إيجاد تقسيمات مناخية عامة لسطح الكرة الأرضية اعتمادًا على الإحصاءات المناخية التي أخذت تتوفر لعناصر المناخ الرئيسية في بعض الدول، وعلى مظاهر الحياة النباتية الطبيعية التي يمكن الاستدلال بها على نوع المناخ في الأقاليم التي لا تتوفر فيها إحصاءات مناخية كافية، مثل الأقاليم الصحراوية وشبه الصحراوية الواسعة في العروض المدارية والأقاليم الواقعة في العروض القطبية، وكانت التقسيمات المناخية تعتمد في مراحلها الأولى على مقارنة المعدلات المناخية لعناصر المناخ دون التعمق في تحليلها لمعرفة اختلافاتها المحلية في مناطق صغيرة، أو معرفة القيم الفعلية لهذه العناصر ومدى تأثير كل منها في الآخر. وبمقتضى هذا الاتجاه أمكن وضع تقسيمات عامة لسطح الكرة الأرضية على أساس الاختلافات المناخية الرئيسية، ثم ظهرت على أساس هذه التقسيمات فكرة تقسيم العالم إلى أقاليم طبيعية، وهى الفكرة التي تبناها الجغرافي البريطاني هربرتسونHerbertson في سنة 1905م.
وفي هذه المرحلة كان الاهتمام الرئيسي لعلماء المناخ هو توزيع المعدلات المناخية الحسابية على خريطة العالم أو خرائط القارات، ثم توصيل الأماكن التي تتساوى فيها المعدلات الشهرية أو السنوية بخطوط يطلق عليها بصفة عامة اسم "خطوط الظاهرات المتساوية Isopleths أو Isograms". ومن أشهرها خطوط الحرارة المتساوية Isopleths وخطوط الضغط المتساوي Isothars المطر المتساويIsohyets وعلى أساس هذه الخطوط أمكن تقسيم سطح الكرة الأرضية إلى أقاليم حرارية ونطاقات للضغط الجوي والرياح، ثم تقسيمه في النهاية إلى أقاليم مناخية لكل منها صفات مناخية عامة مشتركة.
وقد تمخض هذا الاتجاه عن ظهور عدة تقسيمات مناخية لسطح الكرة الأرضية بعضها تقسيمات بسيطة تعتمد على توزيع درجة الحرارة وتوزيع الأمطار، وفيها تستخدم خطوط الحرارة المتساوية التي تمثل المعدلات الحرارية
(1/11)
____
عند مستوى سطح البحر كحدود عامة لهذه الأقاليم، ومثل هذه التقسيمات تصلح لدراسة مناخ القارات والأقاليم الكبرى دارسة مناخية عامة، ومثال ذلك التقسيم الذي اقترحه ديمارتون E.Demartonne في فرنسا سنة 1952، والتقسيم الذي اقترحه أوستن ملر Austin Miller في بريطانيا سنة 1936، والذي لا يختلف كثيرًا عن تقسيم ديمارتون.
وإلى جانب هذه التقسيمات البسيطة ظهرت تقسيمات أخرى أكثر تفصيلًا وتعقيدًا، ففي ألمانيا اقترح كوبن W.Koppen تقسيمًا ربط فيها بين التوزيع الفصلي لكل من عنصري الحرارة والأمطار من أجل تقدير شدة الجفاف وشدة الحرارة أو البرودة، وعلاقة هذا التوزيع بنوع الحياة النباتية الطبيعية.
وفي الولايات المتحدة اقترح ثورنثويت W.Thornthwaite في سنة 1948 تقسيمًا مبنيًّا على حساب الميزانية التي تستخدم فيها معدلات الأمطار وما يضيع منها بالتبخر والنتح Evapotransiration، وحساب القيمة الفعلية لدرجة الحرارة. ويمثل هذا التطور في تصنيف الأنواع بداية للمرحلة الحديثة في دراسة المناخ.
وعلى الرغم من الأهمية الكبيرة لكل هذه التصنيفات فإنها لم تعد كافية لمسايرة التطورات الحديثة في دراسة المناخ، وهي التطورات التي فرضتها الحاجة المتزايدة إلى الاستفادة من دراسة المناخ في مختلف المجالات التطبيقية، وفي مختلف الدراسات العلمية الأخرى التي لها صلة بالمناخ، وذلك بعد أن أصبحت معظم الدراسات العلمية متشابكة بحيث لم يعد أي منها يستغني عن الآخر. فمما لا شك فيه أن الباحثين في علوم مثل علوم الزراعة، الحيوان والنبات، وهندسة المياه، وإيكولوجيا الأمراض، وحماية البيئة، وتخطيط المدن وغيرها، محتاجون جميعًا إلى أساس مناخي يتوقف على طبيعة كل علم منها وطبيعة الموضوع المطلوب دارسته، ومع ذلك فإن الربط بين المناخ وهذه العلوم كان حتى وقت قريب غير واضح بالصورة الكافية؛ لأن المناخ، كان يعالج غالبًا كعلم مستقل حتى عن بقية العلوم الجغرافية.
(1/12)
____
بعض الاتجاهات المعاصرة في الفكر المناخي
مدخل
...
1- 4- بعض الاتجاهات المعاصرة في الفكر المناخي:
على الرغم من أن المناخ لم يسر في تطوره خلال النصف الأول من القرن العشرين بنفس السرعة التي سار بها علم المتيورولوجيا فقد أخذت البحوث المناخية تتقدم بسرعة منذ بداية النصف الثاني من هذا القرن وظهرت في علم البحوث اتجاهات حديثه أهمها:
1- دراسة القيمة الفعلية "أو التأثير الفعلي" لعناصر المناخ.
2- دراسة تفاصيل المناخ بكل عناصره في أماكن محدودة، وظهور ما يعرف باسم "علم المناخ التفصيلي Micro Climatology ".
3- دراسة دور المناخ في مظاهر النشاط البشري المختلفة فيما عرف باسم علم المناخ التطبيقي Applied Climatology.
4- استخدام الأسلوب الكمي في معالجة العلاقات الزمنية والمكانية لعناصر المناخ مثل حساب معامل التغير والانحراف المعياري للتوزيع الشهري أو السنوي للأمطار وغير ذلك من العلاقات التي سنعالج بعضها عند دراسة الأمطار.
(1/13)
____
1- 4- 1 دراسة القيمة الفعلية لعناصر المناخ:
رأى كثير من الباحثين، لا في علم المناخ وحده، بل وفي بعض العلوم الأخرى المتصلة به أن المعدلات المناخية التي تنشرها محطات الأرصاد كثيرًا ما تعطي صورة غير صحيحة لحقيقة العلاقة بين عناصر المناخ من جهة ومظاهر الحياة المختلفة فوق سطح الأرض من جهة أخرى. فمجرد معرفتنا لكمية الأمطار التي تسقط في مكان ما لا تفيدنا كثيرًا إلا إذا عرفنا القيمة الفعلية لهذه الكمية، فقد تتساوى كمية الأمطار التي تسقط سنويًّا في مكانين معينين، ولكن الأثر الذي تحدثه هذه الكمية قد يختلف في أحد المكانين اختلافًا واضحًا، عنه في المكان الآخر، ويرجع ذلك إلى أن الأمطار تخضع بعد سقوطها على سطح الأرض لعدة عوامل هي التي تحدد الفائدة التي يمكن للأنواع المختلفة من
(1/13)
____
الحيوان والنبات أن تحصل عليها منها، فجزء من هذه الأمطار يضيع بالتبخر عند انحداره فوق سطح الأرض أو تجمعه في المنخفضات والمجاري النهرية، وجزء آخر يتسرب في التربة وربما يصل إلى أعماق بعيدة يستحيل معها الاستفادة به، وجزء آخر ينحدر في مجاري الأنهار ويصل إلى البحر أو المحيط وتختلف المقادير التي تضيع من مياه الأمطار بسبب العوامل السابقة من منطقة إلى أخرى على حسب الظروف المحلية الخاصة بكل منطقة، خصوصًا ما يتعلق منها بدرجة الحرارة والتوزيع الفصلي للأمطار ونوع الرياح وخواص التربة وانحدار سطح الأرض، ويعتبر كوبن1 w. koppen الألماني من أشهر الباحثين الذين وجهوا النظر، منذ أوائل القرن الحالي، إلى ضرورة الاهتمام بتقدير القيمة الفعلية للأمطار عند دارسة المناخ.
وفي الولايات المتحدة تقدمت الدراسات المناخية على أسس رياضية على يد "Thornthwaite" الذي اقترح في سنة 1948 تقسيمه المناخي المعروف الذي أصبح في الوقت الحاضر من أكثر التقسيمات المناخية الحديثة استخدامًا في مختلف جهات العالم. وقد بناه على أسس جديدة تعتمد على تحليل العلاقة بين الأمطار وما يضيع منها بالتبخر والنتح2.
وما قيل عن الأمطار يمكن أن يقال كذلك عن درجة الحرارة، فليست جميع درجات الحرارة ذات قيمة واحدة من حيث أثرها في حياة النبات، فلكل نوع من أنواع النباتات حد أدنى وحد أعلى لدرجة الحرارة التي يستطيع أن ينمو فيها. كما أن سرعة نمو النبات قد تكون في درجة حرارة معينة أسرع منها في الدرجات الأخرى، ويحتاج كل نبات كذلك إلى مجموعة من الوحدات أو
__
1 koppen,W."Versuch einer Klassification"
Geogr.Zeitscher,vol.6,1900,pp.963-657
"Grundriss der Klimakunde"1931.
2 Thornthwaite,C.W. "an Approach Towards arational
Classification of Climate" Geog.Rev. vol.38,pp.59-93.
(1/14)
____
الدرجات الحرارية التي يجب توفرها خلال فصل النمو. ويعتبر الضوء عاملًا مساعدًا لدرجة الحرارة، بمعنى أن النبات الذي ينمو في منطقة ما قد يحتاج لكي يتم نموه ونضجه إلى كمية من الوحدات الحرارية أكبر مما يحتاج إليه نفس النبات لو كان نموه في منطقة أخرى نصيبها من ضوء الشمس أكبر من نصيب المنطقة الأولى، وذلك لأن ضوء الشمس يساعد عادة على زيادة سرعة نمو النبات.
وهذه الحقيقة مهمة جدًّا بالنسبة للزراعة في العروض العليا حيث يزداد طول النهار في فصل الصيف، وهو فصل النمو، كلما اقتربنا من الدائرة القطبية ويتزايد تبعًا لذلك مقدار ما تستفيده الأرض من ضوء الشمس. وقد ساعد هذا على نجاح زراعة بعض غلات المناطق المعتدلة مثل القمح في الأقاليم الباردة ويعتبر1 "B.E.Livingston" من أول الباحثين الذين كان لهم فضل توجيه النظر إلى ضرورة تقدير القيمة الفعلية لدرجات الحرارة المختلفة وتأثير كل منها في حياة النبات.
وهذا الاتجاه الحديث لتقدير التأثير الفعلي للعناصر المناخية قد فرض على الباحثين في علم المناخ أن يقووا صلتهم بالعلوم الأخرى، وأن يستفيدوا من النتائج العلمية التي يتوصل إليها غيرهم من الباحثين، خصوصًا في علم النبات والزراعة وهندسة المياه "الهيدرولوجيا"، وهكذا بدأ علم المناخ يوسع اختصاصاته وبدأت تستخدم في تعبيرات جديدة مثل القيمة الفعلية أو التأثير الفعلي للأمطار "Precipitation Effectiveness" والقيمة الفعلية أو التأثير الفعلي لدرجة الحرارة "Temperature Efficiency" والحرارة المتجمعة Accumulated "Temperature" وصفر النمو Zero point if Growth "والتبحر، والنتح" "Evapotranspiration"وهو ما يطلق عليه كذلك تعبير "التبخر الكلي".
__
1 Livingston, B.E."Study of Plant Growth in Relation to Climatic Condition"
Physical Review,vol,1916 pp.399-420.
(1/15)