• !
×

rasl_essaher

فِي أَن أصل الْجِنّ النَّار كَمَا أَن أصل الْإِنْس الطين

الْبَاب الثَّالِث فِي أَن أصل الْجِنّ النَّار كَمَا أَن أصل الْإِنْس الطين

قَالَ الله تَعَالَى {والجان خلقناه من قبل من نَار السمُوم} وَقَالَ تَعَالَى {وَخلق الجان من مارج من نَار} وَقَالَ تَعَالَى حِكَايَة عَن إِبْلِيس {خلقتني من نَار وخلقته من طين}
وَقَالَ القَاضِي عبد الْجَبَّار الدَّلِيل على هَذ السّمع دون الْعقل وَذَلِكَ لِأَن الْجَوَاهِر كلهَا قد دلّ الدَّلِيل على أَنَّهَا متماثلة لِأَن كل وَاحِد مِنْهَا يسد مسد الآخر وَيقوم مقَامه فِي الصّفة الَّتِي تخصه إِذا كَانَ على مثل صفته وَهَذَا هُوَ حد المثلين وَإِنَّمَا تخْتَلف صفاتهما وهيئتهما لأغراض تخص بَعْضهَا دون بعض وَإِذا صَحَّ هَذَا فَالله قَادر على أَن يفعل مَا شَاءَ من التَّأْلِيف وَيُوجد من الألوان وَسَائِر الْأَعْرَاض ويركب مَا شَاءَ من ذَلِك تركيبا يحْتَمل الْأَعْرَاض المحتاجة إِلَى تركيب مَخْصُوص كالحياة الَّتِي يحْتَاج فِي وجودهَا إِلَى تركيب مَخْصُوص وَالْعلم إِلَى بنية الْقلب وَكَذَلِكَ الْإِرَادَة وَمَا جرى هَذَا المجرى وَإِذا كَانَ هَذَا هَكَذَا دلّ على أَن لَا طَرِيق لنا إِلَى أَن نعلم ان الله عز وَجل خلق اصل الْجِنّ من قبيل جَوْهَر مَخْصُوص دون قبيل آخر من جِهَة الْعقل وَلَا نعلم ذَلِك أَيْضا باضطرار لِأَن ذَلِك لَو علم باضطرار لم يَقع اخْتِلَاف فِي اثباتهم لِأَن الْعلم بِمَا خلقُوا مِنْهُ فرع على الْعلم بِأَنَّهُم مخلوقون وَلَا يجوز أَن يعلم الْفَرْع باضطرار وَيعلم الأَصْل باكتساب لِأَن مَا يعلم باكتساب يجوز أَن يجهل وَمَا يعلم باضطرار لَا يجوز أَن يجهل مَعَ كَمَال الْعقل وَبطلَان هَذَا يدل على أَنه
(1/29)
____
لَا يجوز أَن يعلم أصل الْجِنّ مَا هُوَ باضطرار للِاخْتِلَاف فِي إثباتهم فقد بَان أَن ذَلِك لَا يعلم باضطرار كَمَا لَا يعلم باكتساب من جِهَة الْعقل فان قيل كَيفَ تَجْعَلُونَ فِي قَول إِبْلِيس {خلقتني من نَار} دلَالَة مَعَ أَنه يجوز أَن يكذب فِي ذَلِك أَو يَظُنّهُ وَلَا يكون لَهُ بِهِ علم قيل لَهُ مَوضِع الدّلَالَة من ذَلِك قَول الله تَعَالَى ولولم يكن الْأَمر على مَا قَالَ لما ترك الله تَكْذِيبه لِأَن ترك تَكْذِيب الْكَاذِب مِمَّن لَا يجوز عَلَيْهِ الْخَوْف وَالْجهل قَبِيح اهـ
قَالَ وَبِهَذَا بِعَيْنِه احْتج شُيُوخنَا على الْمخبر بالاستطاعة بقول الْجِنّ لِسُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام {أَنا آتِيك بِهِ قبل أَن تقوم من مقامك وَإِنِّي عَلَيْهِ لقوي أَمِين} فَزعم أَن قوى على الْإِتْيَان بِعَرْشِهَا قبل أَن يفعل الْإِتْيَان فَلم يَجْعَل قَول الجنى دَلِيلا على ذَلِك وَإِنَّمَا جعلُوا سكُوت سُلَيْمَان على تَكْذِيبه وَالْإِنْكَار عَلَيْهِ حجَّة لِأَنَّهُ لَو لم يكن قَادِرًا على الْإِتْيَان بِهِ لم يدع الْإِنْكَار عَلَيْهِ وَإِذا كَانَ هَذَا هَكَذَا بَطل الِاعْتِرَاض الْمَذْكُور بِأَن صِحَة مَا تقدم ذكره على أَنا لَا نعلم خلافًا بَين الْمُسلمين فِي ذَلِك وَلَا يشك أَن هَذَا كَانَ من دين الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِن قيل فِي النَّار من اليبس مَا لَا يَصح وجود الْحَيَاة فِيهَا والحياة فِي وجودهَا تحْتَاج إِلَى رُطُوبَة كَمَا تحْتَاج إِلَى بنية مَخْصُوصَة وَإِلَى الرّوح الَّتِي هِيَ النَّفس المتردد عِنْد شيخكم أبي هَاشم إِن كَانَ شيخكم أَبُو عَليّ يجوز وجود الْحَيَاة مَعَ عدم النَّفس وَيَقُول إِن أهل النَّار لَا يتنفسون وَإِذا صَحَّ هَذَا فالرطوبة لَا بُد مِنْهَا فِي وجود الْحَيَاة وَكَذَلِكَ البنية فَكيف يَصح لكم مَا قُلْتُمْ فَهَلا لديكم هَذَا على أَن الله تَعَالَى أَرَادَ بقوله {خلقناه من قبل من نَار السمُوم} غير مَا ذهبتم اليه وَإِن الْآيَة لَيست على ظَاهرهَا
قيل لَهُ إِن الامر وَإِن كَانَ على مَا ذكرت فَإِن الله تَعَالَى قَادر على أَن يفعل رُطُوبَة فِي تِلْكَ النَّار بِمِقْدَار مَا يَصح وجود الْحَيَاة فِيهَا لِأَن مجاورة المَاء وَالنَّار لَا تستحيل يدلك على هَذَا المَاء المسخن فَإِنَّهُ إِنَّمَا يسخن من
(1/30)
____
أَجزَاء من النَّار تتخلل فِي خلل المَاء فَلهَذَا مَتى قَامَ فِي الْهَوَاء رقت أَجزَاء النَّار وَفَارَقت المَاء وَعَاد إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ من الْبُرُودَة أَلا ترى أَن البخار الَّذِي يرْتَفع مِنْهُ صعد إِنَّمَا يكون ذَلِك لارْتِفَاع أَجزَاء النَّار لِأَن أجزاءها خَفِيفَة والخفيف هُوَ مَا فِيهِ اعْتِمَاد صعدا وَالْمَاء ثقيل لِأَن فِيهِ اعْتِمَادًا سفلا فالبخار وَإِن كَانَ فِيهِ أَجزَاء من الرُّطُوبَة فَإِن أَكثر مَا فِيهِ أَجزَاء النَّار فلغلبتها عل الاجزاء الرّطبَة ترْتَفع مَعهَا وَتصير حكم الاجزاء المائية فِي لطافتها حَتَّى ترفعها أَجزَاء النَّار كالقطن وَمَا يجْرِي مجْرَاه مِمَّا ترفعه النَّار بصعودها فَدلَّ على صِحَة مَا ذَهَبْنَا اليه من مجاورة المَاء وَالنَّار على هَذَا السَّبِيل الَّذِي بَيناهُ وَإِذا صحت هَذِه الْجُمْلَة لم يمْتَنع إِحْدَاث الله تَعَالَى أَجزَاء من الرُّطُوبَة فِي خلل النَّار حَتَّى يَصح وجود الْحَيَاة وَلَيْسَ فِي البنية وَلَا فِي الرّوح لَهُم تعلق لِأَن النَّار تحْتَمل البنية وَكَذَلِكَ تحْتَمل مجاورتها الرّيح وَالروح هُوَ الْهَوَاء للنار قَالَ فَإِن قيل إِذا لم يجوزوا لُغَة اسْتثِْنَاء الشَّيْء من غير جنسه أَلا ترى أَنَّك لَا تَقول عِنْدِي عشرَة دَرَاهِم إِلَّا ثوبا وَمَا شاكله فَكيف يجوز اسْتثِْنَاء إِبْلِيس من جملَة الْمَلَائِكَة إِذا لم يكن من جنسهم وَمن أصلهم مَعَ أَن الله تَعَالَى خاطبنا بلغَة الْعَرَب فَهَلا دلكم هَذَا على أَنه من جنس الْمَلَائِكَة وَأَن اصل الْجِنّ لَيْسَ هُوَ النَّار
قُلْنَا انما جَازَ ذَلِك لما جمعهم وإياه الحكم الْمَقْصُود وَهُوَ الْأَمر بِالسُّجُود وَإِذا كَانَ هَذَا سائغا فِي اللُّغَة وَكَانَ مَشْهُورا عِنْد أَهلهَا سقط السُّؤَال وَصَحَّ مَا ذَكرْنَاهُ فِي هَذَا الْفَصْل
وَقَالَ ابو الْوَفَاء بن عقيل فِي الْفُنُون سَأَلَ سَائل عَن الْجِنّ فَقَالَ الله تَعَالَى اخبر عَنْهُم أَنهم من نَار بقوله تَعَالَى {والجان خلقناه من قبل من نَار السمُوم} وَأخْبر أَن الشهب تَضُرهُمْ وتحرقهم فَكيف تحرق النَّار النَّار فَقَالَ الْجَواب وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق
اعْلَم أَن الله تَعَالَى أضَاف الشَّيَاطِين وَالْجِنّ إِلَى النَّار حسب مَا أضَاف الْإِنْسَان إِلَى التُّرَاب والطين والفخار وَالْمرَاد بِهِ فِي حق الانسان أَن أَصله الطين وَلَيْسَ الْآدَمِيّ طينا حَقِيقَة لكنه كَانَ طينا كَذَلِك الجان كَانَ نَارا فِي
(1/31)
____
الأَصْل وَالدَّلِيل على ذَلِك قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عرض لي الشَّيْطَان فِي صَلَاتي فخنقته فَوجدت برد رِيقه على يَدي وَلَوْلَا دَعْوَة أخي سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام لقتلته أهـ
وَمن يكون نَارا محرقة كَيفَ يكون رِيقه بَارِدًا وَلَا لَهُ ريق رَأْسا لَكِن كَانَ يَقُول لَهُ لِسَان وذؤابة من نَار محرقة فَعلم صِحَة مَا قُلْنَا وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شبههم بالنبط وَلَوْلَا أَنهم على أشكال لَيست نَارا لما ذكر الصُّور وَترك الالتهاب والشرر انْتهى
قلت هَكَذَا لَفظه وَلَوْلَا دَعْوَة أخي سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام لقتلته وَهَذَا اللَّفْظ غير مَعْرُوف بل الْمَعْرُوف فِي الصَّحِيح وَالسّنَن لَوْلَا دَعْوَة أخي سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام لأصبح موثقًا حَتَّى ترَاهُ النَّاس وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَلَقَد هَمَمْت أَن أوثقه إِلَى سَارِيَة حَتَّى تصبحوا فتنظروا إِلَيْهِ وَمِمَّا يدل على أَن الْجِنّ لَيْسُوا باقين على عنصرهم الناري قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن عَدو الله تَعَالَى إِبْلِيس جَاءَ بشهاب من نَار ليجعله فِي وَجْهي أهـ وَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رَأَيْت لَيْلَة أسرِي بِي عفريتا من الْجِنّ يطلبني بشعلة من نَار كلما الْتفت رَأَيْته أهـ
وَبَيَان الدّلَالَة مِنْهُ أَنهم لَو كَانُوا باقين على عنصرهم الناري وَأَنَّهُمْ نَار محرقة لما احتاجوا إِلَى أَن يَأْتِي الشَّيْطَان أَو العفريت مِنْهُم بشعلة من نَار ولكانت يَد الشَّيَاطِين أَو العفريت أَو شَيْء من أَعْضَائِهِ إِذا مس ابْن آدم احرقه كَمَا يحرق الْآدَمِيّ النَّار الْحَقِيقِيَّة بِمُجَرَّد الْمس فَدلَّ على أَن تِلْكَ النَّار انغمرت فِي سَائِر العناصر حَتَّى صَار الْبرد رُبمَا كَانَ هُوَ الْغَالِب فِي بعض الأحيان إِمَّا للأعضاء نَفسهَا أَو لما تحلل من الْبدن كاللعاب كَمَا قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى برد لِسَانه على يَدي وَفِي رِوَايَة حَتَّى برد لعابه وَلَا شكّ أَن الله تَعَالَى جعل الأقوات منمية للأجسام وَيكون
(1/32)
____
النمو استأصل عَن الْغذَاء على حَسبه فِي الْحَرَارَة والبرودة على اخْتِلَافهمَا فِي الرُّطُوبَة واليبوسة وَلَا شكّ أَنهم يَأْكُلُون وَيَشْرَبُونَ مِمَّا نَأْكُل مِنْهُ وَنَشْرَب وَيحصل لأجسامهم بذلك نمو وَبَقَاء على حسب الْمَأْكُول فِي مأكولهم الْحَار والبارد الرطبان واليابسان فَهَذَا مَعَ التوالد قد نقلهم عَن العنصر الناري وَصَارَ فيهم الطبائع الْأَرْبَع
قَالَ القَاضِي أَبُو بكر ولسنا ننكر مَعَ ذَلِك يَعْنِي أَن الأَصْل الَّذِي خلقه مِنْهُ النَّار أَن يكثفهم الله تَعَالَى ويغلظ أجسامهم ويخلق لَهُم أعراضا تزيد على مَا فِي النَّار فَيخْرجُونَ عَن كَونهم نَارا ويخلق لَهُم صورا وأشكالا مُخْتَلفَة وَالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أعلم بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمرجع والمآب
(1/33)

بواسطة : rasl_essaher
 0  0  281