فِي بَيَان أَن الْجِنّ داخلين فِي عُمُوم بعثة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
الْبَاب السَّابِع عشر فِي بَيَان أَن الْجِنّ داخلين فِي عُمُوم بعثة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
لم يُخَالف أحد من طوائف الْمُسلمين فِي أَن الله تَعَالَى أرسل مُحَمَّدًا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى الْجِنّ وَالْإِنْس وَثَبت فِي الصَّحِيحَيْنِ من حَدِيث جَابر بن عبد الله أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ أَعْطَيْت خمْسا لم يُعْطهنَّ أحد من الْأَنْبِيَاء قبلي إِلَى أَن قَالَ وَكَانَ النَّبِي يبْعَث إِلَى قومه خَاصَّة وَبعثت إِلَى النَّاس عَامَّة قَالَ ابْن عقيل الْجِنّ داخلون فِي مُسَمّى النَّاس لُغَة وَقَالَ الرَّاغِب النَّاس جمَاعَة حَيَوَان ذِي كفر وروية وَالْجِنّ لَهُم فكر وروية وَالنَّاس من نَاس يقوس إِذا تحرّك وَقَالَ الْجَوْهَرِي النَّاس قد يكون من الْإِنْس وَمن الْجِنّ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضا من حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعثت إِلَى الْأَحْمَر وَالْأسود وَاخْتلفت الْعلمَاء فِي الْمَعْنى المُرَاد من الْأَحْمَر وَالْأسود هُنَا فَقيل هم الْعَرَب الْعَجم لِأَن الْغَالِب على الْعَجم الْحمرَة وَالْبَيَاض وعَلى الْعَرَب الآدمة والسواد وَقيل أَرَادَ الْإِنْس وَالْجِنّ وَقيل أَرَادَ الْأَحْمَر والأبيض مُطلقًا فَإِن الْعَرَب تَقول إمرأة حَمْرَاء أَي بَيْضَاء وَيُؤَيّد قَول من قَالَ إِنَّهُم الْجِنّ إِن إِطْلَاق السوَاد على الْجِنّ صَحِيح بِاعْتِبَار مشابهتهم للأرواح والأرواح يُقَال لَهَا اسودة كَمَا فِي حَدِيث الْإِسْرَاء أَنه رأى آدم وَعَن يَمِينه اسودة وَعَن شِمَاله اسودة وانها نسم بنيه وَفِي حَدِيث ابْن مَسْعُود لَيْلَة الْجِنّ فَغَشِيتهُ أَسْوِدَة حَالَتْ بيني وَبَينه وروى شمة بن مُوسَى من حَدِيث ابْن عَبَّاس عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ أرْسلت إِلَى الْجِنّ وَالْإِنْس وَإِلَى كل أَحْمَر وأسود قَالَ ابْن عبد الْبر وَلَا يَخْتَلِفُونَ أَن مُحَمَّدًا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى الْإِنْس وَالْجِنّ بشيرا وَنَذِيرا وَهَذَا مِمَّا فضل بِهِ على الْأَنْبِيَاء أَنه بعث إِلَى الْخلق كَافَّة الْجِنّ وَالْإِنْس وَغَيره وَلم يُرْسل إِلَّا لمَكَان قومه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(1/65)
____
وعَلى سَائِر الْأَنْبِيَاء وَكَذَلِكَ نقل ابْن حزم وَكَثِيرًا مَا تذكر الْعلمَاء فِي تصانيفهم كَونه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَبْعُوثًا إِلَى الثقلَيْن وَقَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ فِي الْإِرْشَاد فِي الرَّد على العيسوية وَقد علمنَا ضَرُورَة انه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أدعى كَونه مَبْعُوثًا إِلَى الثقلَيْن وَقَالَ الشَّيْخ ابو الْعَبَّاس بن تَيْمِية أرسل الله مُحَمَّدًا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى جَمِيع الثقلَيْن الْإِنْس وَالْجِنّ وَأوجب عَلَيْهِم الْإِيمَان بِهِ وَبِمَا جَاءَ بِهِ وطاعته وَأَن يحللون مَا حلل الله وَرَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ويحرمون مَا حرم الله وَرَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَن يوجبوا مَا أوجب الله وَرَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ويحبوا مَا أحب الله وَرَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَيَكْرَهُوا مَا كره الله وَرَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَن كل مَا مَا قَامَت عَلَيْهِ الْحجَّة برسالة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الْإِنْس وَالْجِنّ فَلم يُؤمن بِهِ اسْتحق عِقَاب الله تَعَالَى كَمَا يسْتَحق أَمْثَاله من الْكَافرين الَّذين بعث اليهم الرُّسُل وَهَذَا أصل مُتَّفق عَلَيْهِ بَين الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وأئمة الْمُسلمين وَسَائِر الطوائف الْمُسلمين أهل السّنة وَالْجَمَاعَات وَغَيرهم قلت وَقد اخبر الله تَعَالَى فِي الْقُرْآن أَن الْجِنّ اسْتَمعُوا الْقُرْآن وَأَنَّهُمْ آمنُوا بِهِ كَمَا قَالَ الله تَعَالَى {وَإِذ صرفنَا إِلَيْك نَفرا من الْجِنّ} إِلَى قَوْله تَعَالَى {أُولَئِكَ فِي ضلال مُبين} ثمَّ أمره أَن يخبر النَّاس بذلك فَقَالَ {قل أُوحِي إِلَيّ أَنه اسْتمع نفر من الْجِنّ} السُّورَة بكمالها فَأمره بقول ذَلِك ليعلم الْإِنْس بأحوال الْجِنّ وَأَنه مَبْعُوث إِلَى الْأنس وَالْجِنّ وَلما فِي ذَلِك من هدى الْإِنْس وَالْجِنّ إِلَى مَا يجب عَلَيْهِم من الْإِيمَان بِاللَّه تَعَالَى وَرَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْيَوْم الآخر وَمَا يجب من طَاعَة الله وَرَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمن تَحْرِيم الشّرك بالجن وَغَيرهم كَمَا قَالَ فِي السُّورَة {وَأَنه كَانَ رجال من الْإِنْس يعوذون بِرِجَال من الْجِنّ فزادوهم رهقا} فَإِنَّهُ كَانَ الرجل
(1/66)
____
من الْإِنْس ينزل بالوادي والأودية مظان الْجِنّ فَإِنَّهُم يكونُونَ بالأودية أَكثر مِمَّا يكونُونَ بأعالي الأَرْض فَكَانَ الْإِنْسِي يَقُول أعوذ بعظيم هَذَا الْوَادي من سفهائه روى أَن حجاج بن علاظ السّلمِيّ وَالِد نصر بن حجاج الَّذِي قيل فِيهِ
(أم من سَبِيل إِلَى نصر بن حجاج ... )
قدم مَكَّة فِي ركب فأجنهم اللَّيْل بواد مخوف موحش فَقَالَ لَهُ الركب قُم فَخذ لنَفسك أَمَانًا ولأصحابك فَجعل يطوف بالركب وَيَقُول ... أعيذ نَفسِي وأعيذ صحبي ... من كل جني بِهَذَا القب
حَتَّى أؤوب سالما وركبي ...
فَسمع قَارِئًا يقرا {يَا معشر الْجِنّ وَالْإِنْس إِن اسْتَطَعْتُم أَن تنفذوا من أقطار السَّمَاوَات وَالْأَرْض فانفذوا} الْآيَة فَلَمَّا قدم مَكَّة خبر كفار قُرَيْش بِمَا سمع فَقَالُوا صَبَأت يَا أَبَا كلاب إِن هَذَا يزْعم أَن مُحَمَّدًا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنزل عَلَيْهِ قَالَ وَالله لقد سمعته وسَمعه هَؤُلَاءِ معي ثمَّ أسلم وَحسن إِسْلَامه وَهَاجَر إِلَى الْمَدِينَة وَبنى بهَا مَسْجِدا يعرف بِهِ وَلما رَأَتْ الْجِنّ أَن الْإِنْس تستعيذ بهم زَاد طغيانهم وعتوهم وَبِهَذَا يجيبون المعزم والراقي بِأَسْمَائِهِمْ وَأَسْمَاء مُلُوكهمْ فَإِنَّهُ يقسم عَلَيْهِم بأسماء من يعظمونه فَيحصل لَهُم ذَلِك من الرِّئَاسَة والشرف على الْإِنْس مَا يحملهم على أَن يعطوهم بعض سؤلهم وهم يعلمُونَ أَن الْإِنْس اشرف مِنْهُم وَأعظم قدرا فَإِذا خضعت الْإِنْس لَهُم واستعاذتهم كَانَ بِمَنْزِلَة أكَابِر النَّاس إِذا خضع لأصاغرهم ليقضى لَهُم حَاجته قلت قَول النَّفر الَّذِي اسْتَمعُوا الْقُرْآن لقومهم {يَا قَومنَا أجِيبُوا دَاعِي الله وآمنوا بِهِ يغْفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عَذَاب أَلِيم} صَرِيح ظَاهر فِي بعثته إِلَيْهِم وانقيادهم للْإيمَان بِهِ وَقَول النَّفر {وَمن لَا يجب دَاعِي الله فَلَيْسَ بمعجز فِي الأَرْض وَلَيْسَ لَهُ من دونه أَوْلِيَاء أُولَئِكَ فِي ضلال مُبين} صَرِيح فِي أَن من لم يُؤمن بِالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الْجِنّ فَهُوَ كَافِر وَبِاللَّهِ الْعِصْمَة والتوفيق
(1/67)