فِي أَن الحكم الْمَكْرُوه من الشَّيْطَان
الْبَاب الْحَادِي عشر بعد الْمِائَة فِي أَن الحكم الْمَكْرُوه من الشَّيْطَان
روى البُخَارِيّ وَمُسلم وَغَيرهمَا من حَدِيث أبي قَتَادَة سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول الرُّؤْيَا من الله والحلم من الشَّيْطَان فَإِذا حلم أحدكُم الْحلم يكرههُ فليبصق عَن يسَاره وليستعذ بِاللَّه مِنْهُ فَلَنْ يضرّهُ وَفِي البُخَارِيّ من حَدِيث أبي سعيد أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إِذا رأى أحدكُم الرُّؤْيَا يُحِبهَا فَإِنَّهَا من الله عز وَجل فيحمد الله عَلَيْهَا وليحدث بهَا وَإِذا رأى غير ذَلِك مِمَّا يكره فَإِنَّمَا هِيَ من الشَّيْطَان فليستعذ بِاللَّه من شَرها وَلَا يذكرهَا لَاحَدَّ فَإِنَّهَا لن تضره قَالَ السُّهيْلي الرُّؤْيَا عِنْد أهل الْعلم مَا يرَاهُ الْإِنْسَان فِي مَنَامه والرؤية مَا يرَاهُ بِعَيْنِه فِي الْيَقَظَة فرؤية النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم تكن إِلَّا لمن رَآهُ فِي حَيَاته وَأما رُؤْيا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْمَنَام فرؤيا وَلَا تكون رُؤْيا حق لقَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام من رَآنِي فقد رأى الْحق وَهُوَ مُشْتَرك بَين الرُّؤْيَة والرؤيا وَأما قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام من رَآنِي فِي الْمَنَام فسيراني فِي الْيَقَظَة أول الْكَلَام من الرُّؤْيَا وَآخره من الرُّؤْيَة قَالَ الْمَازرِيّ كثر كَلَام النَّاس
(1/242)
____
فِي حَقِيقَة الرُّؤْيَا فَقَالَ فِيهَا غير الإسلامين أقاويل كَثِيرَة مُنكرَة لما حاولوا الْوُقُوف على حقائق لَا تعلم بِالْعقلِ وَلَا يقوم عَلَيْهَا برهَان وهم لَا يصدقون بِالسَّمْعِ فاضطربت لذَلِك مقالاتهم فَمن ينتمي إِلَى الطِّبّ ينْسب جَمِيع الرُّؤْيَا إِلَى الأخلاط وَيَقُول من غلب عَلَيْهِ البلغم رأى السباحة فِي المَاء أَو مَا شابهه لمناسبة المَاء فِي طَبِيعَته طبيعة البلغم وَمن غلب عَلَيْهِ الصَّفْرَاء رأى النيرَان والصعود فِي الجو وَشبهه لمناسبة النَّار طبيعة الصَّفْرَاء وَلِأَن خفتها وإنفاذها تخيل إِلَيْهِ الطيران فِي الجو والصعود فِي الْعُلُوّ وَهَكَذَا يصنعون فِي بَقِيَّة الأخلاط وَهَذَا مَذْهَب وَإِن جوزه الْعقل وامكن عندنَا أَن يجْرِي البادي جلت قدرته الْعَادة بِأَن يخلق مثل مَا قَالُوا عِنْد غَلَبَة هَذِه الأخلاط فَإِنَّهُ لم يقم عَلَيْهِ دَلِيل وَلَا اطردت بِهِ عَادَة وَالْقطع فِي مَوضِع التجويز غلط وجهالة هَذَا لَو نسبوا ذَلِك إِلَى الأخلاط على جِهَة الِاعْتِبَار واما إِن أضافوا الْفِعْل إِلَيْهَا فَإنَّا نقطع بخطئهم وَلَا نجوز مَا قَالُوهُ إِذْ لَا فَاعل إِلَّا الله تَعَالَى ولبعض أَئِمَّة الفلاسفة تَخْلِيط طَوِيل فِي هَذَا وَكَأَنَّهُ يرى أَن صور مَا يجْرِي فِي الْعَالم الْعلوِي كالمنقوش وَكَأَنَّهُ يَدُور بدوران الأكر فَمَا حَاذَى بعض النُّفُوس مِنْهُ انتقش فِيهَا وَهَذَا أوضح فَسَادًا من الأول مَعَ كَونه تحكما بِمَا لم يقم عَلَيْهِ برهَان والانتقاش من صِفَات الْأَجْسَام وَكَثِيرًا مَا تجْرِي فِي الْعَالم والأعراض لَا تنتقش وَلَا ينتقش فِيهَا وَالْمذهب الصَّحِيح مَا عَلَيْهِ أهل السّنة وَهُوَ أَن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يخلق فِي قلب النَّائِم اعتقادات كَمَا يخلقها فِي قلب الْيَقظَان وَهُوَ تبَارك وَتَعَالَى يفعل مَا يَشَاء وَلَا يمْنَع من فعله نوم وَلَا يقظة فَإِذا خلق هَذِه الاعتقادات فَكَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ جعلهَا علما على أُمُور أخر يخلقها فِي ثَانِي حَال أَو كَانَ خلقهَا فَإِذا خلق فِي قلب النَّائِم اعْتِقَاد الطيران وَلَيْسَ بطائر فقصارى مَا فِيهِ أَنه اعْتقد امرا على خلاف مَا هُوَ عَلَيْهِ علما وَكم فِي الْيَقَظَة مِمَّن يعْتَقد أمرا على خلاف مَا هُوَ عَلَيْهِ فَيكون ذَلِك الِاعْتِقَاد علما على غَيره كَمَا يكون خلق الله تَعَالَى الْغَيْم علما على الْمَطَر والجميع خلق الله وَلَكِن يخلق الرُّؤْيَا والاعتقادات الَّتِي جعلهَا علما على مَا يسر بِحَضْرَة الْملك أَو بِغَيْر حَضْرَة الشَّيْطَان ويخلق ضدها مِمَّا هُوَ علم على مَا يضرّهُ بِحَضْرَة الشَّيْطَان فينسب إِلَيْهِ مجَازًا واتساعا هَذَا الْمَعْنى بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الرُّؤْيَا من الله عز وَجل والحلم من الشَّيْطَان لَا على أَن الشَّيْطَان يفعل شَيْئا فِي غَيره وَتَكون الرُّؤْيَا
(1/243)
____
اسْما لما يحب والحلم اسْم لما يكره أنْتَهى قَول الْمَازرِيّ وَحكى السُّهيْلي فِي حَقِيقَة الرُّؤْيَا قَول الأسفرائي أَبُو إِسْحَاق فِيمَا بلغه عَنهُ أَن الرُّؤْيَا إِدْرَاك بِجُزْء من الْقلب كَمَا أَن الرُّؤْيَة إِدْرَاك بِجُزْء من الْعين وَإِذا غشى الْقلب كُله النّوم لم ير شَيْئا فَإِذا ذهب عَنهُ النّوم أَو عَن أَكثر الْقلب كَانَت الرُّؤْيَا أصفى وَأجلى كرؤيا السحر قَالَ وَقَالَ القَاضِي الرُّؤْيَا اعتقادات يعتقدها الرَّائِي فِي النّوم وَلَيْسَت بِإِدْرَاك كإدراك الحاسة وَقَالَ الْأُسْتَاذ أَبُو بكر ابْن فورك الرُّؤْيَا أَوْهَام يتوهمها الْمَرْء فِي حَال النّوم ثمَّ قَالَ أما قَول الأسفرائيني فقد يجوز أَن يكون فِي بعض الْأَحْوَال لَا فِي جَمِيع أَحْوَال الرُّؤْيَا فَإِن الرَّائِي قد يرى فِي الْمَنَام مَا هُوَ مَعْدُوم فِي تِلْكَ الْحَال والمعدوم لَا تتَعَلَّق بِهِ الإدراكات وَأما قَول القَاضِي اعتقادات فَحق لِأَنَّهُ قد يعْتَقد الشَّيْء على مَا هُوَ عَلَيْهِ وَقد يَعْتَقِدهُ على خلاف مَا هُوَ عَلَيْهِ كَالَّذي يرى اللَّبن فِي النّوم فيعتقده لَبَنًا وَهُوَ عبارَة عَن الْعلم وَقد يحضر فِي حَال النّوم أَنه عبارَة عَن الْعلم وَلَيْسَ بِلَبن وَأما قَول أبي بكر هِيَ أَوْهَام فَصَحِيح وَلَيْسَ بمناقض لقَوْل القَاضِي لِأَن النَّائِم يتوهمه الشَّيْء فِي تصَوره فِي خلده ثمَّ يعْتَقد مَعَ ذَلِك التَّوَهُّم أَن الشَّيْء كَمَا يُوهِمهُ لعزوب عقله فِي النّوم فَإِذا ثاب إِلَيْهِ عقله فِي الْيَقَظَة انحل عَنهُ الِاعْتِقَاد وَعلم أَن الَّذِي توهمه لَيْسَ على الصُّورَة الَّتِي توهمها كَالَّذي يتَوَهَّم فِي الْيَقَظَة وَهُوَ فِي السَّفِينَة مَاشِيَة أَن الْبَحْر يمشي مَعَه وعقله يدْفع مَا فاجأه بِهِ الْوَهم وَلَوْلَا ذَلِك لاعتقد صِحَة مَا توهم فَإِذا عزب الْعقل تحكم الْوَهم اعتقدت النَّفس صِحَة مَا يتَوَهَّم فثم إِذا وهم إِمَّا صَادِق وَإِمَّا كَاذِب وَتمّ فِي تِلْكَ الْحَالة اعْتِقَاد تَصْدِيق الْوَهم انْتهى مَا ذكره فِي حَقِيقَة الرُّؤْيَا قَالَ الْمَازرِيّ وَأما قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِنَّهَا لن تضره فَقيل مَعْنَاهُ أَن الروع يذهب بِهَذَا النفث الْمَذْكُور وَفِي الحَدِيث إِذا كَانَ فَاعله مُصدقا بِهِ متكلا على الله جلت قدرته فِي دفع الْمَكْرُوه وَقيل يحْتَمل ان يُرِيد أَن هَذَا الْفِعْل مِنْهُ يمْنَع من نُفُوذ مَا دلّ عَلَيْهِ الْمَنَام من الْمَكْرُوه وَيكون ذَلِك سَببا فِيهِ كَمَا تكون الصَّدَقَة تدفع الْبلَاء إِلَى غير ذَلِك من النَّظَائِر الْمَذْكُورَة عِنْد أهل الشَّرِيعَة وَالله تَعَالَى أعلم
(1/244)