فِي أَن الشَّيْطَان لَا يتَمَثَّل بِالنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَام
الْبَاب الثَّانِي عشر بعد الْمِائَة
فِي أَن الشَّيْطَان لَا يتَمَثَّل بِالنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَام
فِي الصَّحِيحَيْنِ من حَدِيث أبي سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف أَن أَبَا هُرَيْرَة قَالَ سَمِعت أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول من رَآنِي فِي الْمَنَام فسيراني فِي الْيَقَظَة أَو كَمَا رَآنِي فِي الْيَقَظَة لَا يتَمَثَّل الشَّيْطَان بِي قَالَ وَقَالَ أَبُو سَلمَة قَالَ أَبُو قَتَادَة قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من رَآنِي فقد رأى الْحق وَفِي رِوَايَة من رَآنِي فِي الْمَنَام فقد رَآنِي فَإِن الشَّيْطَان لَا يتَمَثَّل بِي ذهب القَاضِي أَبُو بكر بن الطّيب إِلَى أَن المُرَاد بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من رَآنِي فِي الْمَنَام فقد رَآنِي أَنه رأى الْحق وَأَن رُؤْيَاهُ لَا تكون أضغاثا وَلَا من التشبيهات فِي الشَّيْطَان ويعضد مَا قَالَه بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي بعض الطّرق من رَآنِي فقد رأى الْحق إِن كَانَ المُرَاد بِهِ مَا أُرِيد بِالْحَدِيثِ الأول من الْمَنَام وَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِن الشَّيْطَان لَا يتَمَثَّل بِي إِشَارَة إِلَى أَن رُؤْيَاهُ لَا تكون أضغاثا وَإِنَّمَا تكون حَقًا وَقد يرَاهُ الرَّائِي على غير صفته المنقولة إِلَيْنَا كَمَا لَو رَآهُ شَيخا ابيض اللِّحْيَة أَو على خلاف لَونه أَو يرَاهُ رائيان فِي زمَان وَاحِد أَحدهمَا بالمشرق وَالْآخر بالمغرب وَيَرَاهُ وكل مِنْهُمَا مَعَه فِي مَكَانَهُ وَقَالَ السُّهيْلي رُؤْيا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْمَنَام رُؤْيا وَلَا تكون إِلَّا رُؤْيَة حق لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من رَآنِي فقد رأى الْحق وَهُوَ مُشْتَرك بَين الرُّؤْيَة والرؤيا وَأما قَوْله من رَآنِي فِي الْمَنَام فسيراني فِي الْيَقَظَة أول الْكَلَام من الرُّؤْيَا وَالثَّانِي من الرُّؤْيَة وَقَالَ آخَرُونَ بل الحَدِيث مَحْمُول على ظَاهره وَالْمرَاد أَن من رَآهُ فقد أدْركهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا مَانع يمْنَع من ذَلِك وَلَا عقل يحيله حَتَّى يضْطَر إِلَى صرف الْكَلَام عَن ظَاهره وَأما الاعتلال أَنه قد يرى على خلاف صفته الْمَعْرُوفَة وَفِي مكانين مُخْتَلفين مَعًا فَإِن ذَلِك غلط فِي صِفَاته وتخيل لَهَا على غير مَا هِيَ عَلَيْهِ وَقد يظنّ بعض الخيالات مرئيات لكَون مَا يتخيل مرتبطا لما يرى فِي الْعَادة فَتكون ذَاته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مرئية
(1/245)
____
وَصِفَاته متخيلة غير مرئية والإدراك لَا يشْتَرط فِيهِ تحديق الْأَبْصَار وَلَا قرب المسافات وَلَا كَون المرئي مَدْفُونا فِي الأَرْض وَلَا ظَاهرا عَلَيْهَا وَإِنَّمَا يشْتَرط كَونه مَوْجُودا وَقد ثَبت وجوده وَتَكون الصِّفَات المتخيلة ثَمَرَتهَا اخْتِلَاف الدلالات وَقد ذكر الْكرْمَانِي فِي بَاب رُؤْيا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ وَقد جَاءَ فِي الحَدِيث انه إِذا رئى فِي الْمَنَام شَيخا فَهُوَ عَام سلم وَإِذا رئى شَابًّا فَهُوَ عَام حَرْب وَكَذَلِكَ أحد جوابهم عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَو رَآهُ امْرُؤ يَأْمُرهُ بقتل من لَا يحل قَتله فَإِن ذَلِك من الصِّفَات المتخيلة لَا المرئية وجوابهم الثَّانِي منع وُقُوع مثل هَذَا قَالَ الْمَازرِيّ لَا وَجه عِنْدِي لمنعهم إِيَّاه مَعَ قَوْلهم فِي تخيل الصِّفَات فَهَذَا انْفِصَال هَؤُلَاءِ عَمَّا احْتج بِهِ القَاضِي وَأما قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من رَآنِي فِي الْمَنَام فسيراني فِي الْيَقَظَة اَوْ كَأَنَّمَا رَآنِي فِي الْيَقَظَة فتأويله مَأْخُوذ مِمَّا تقدم قَالَ الْمَازرِيّ إِن كَانَ الْمَحْفُوظ فسيراني فِي الْيَقَظَة فَيحْتَمل أَن يُرِيد أهل عصره مِمَّن لم يُهَاجر اليه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِنَّهُ إِذا رَآهُ فِي الْمَنَام فسيراه فِي الْيَقَظَة وَيكون الْبَارِي جلت قدرته جعل رُؤْيا الْمَنَام علما على رُؤْيَة الْيَقَظَة وَأوحى إِلَيْهِ بذلك صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وَقَالَ السُّهيْلي فِي ضمن أسئلة فِي الرُّؤْيَا كَيفَ تكون الرُّؤْيَا حَقًا وَهِي كلهَا قد يرى على صور مُخْتَلفَة مِنْهَا مَا هِيَ صُورَة لَهُ وَمِنْهَا مَا لَيْسَ بِصُورَة لَهُ وَأجَاب بعد تَقْرِير الْكَلَام فِي حَقِيقَة الرُّؤْيَا وَقَالَ إِذا رأى فِي حَال النّوم مُحَمَّدًا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مثلا على غير صورته الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا فقد رَآهُ حَقًا وَلَكِن من الرُّؤْيَا لَا من الرُّؤْيَة فَتوهم الصُّورَة أَنَّهَا صورته وَأَنَّهَا صفة لَهُ واعتقد فِي تِلْكَ الْحَال لعزوب الْعقل تَصْدِيق الْوَهم وَلم يقْدَح ذَلِك التَّوَهُّم فِي صِحَة الرُّؤْيَا كَمَا لم يقْدَح من الْيَقظَان الرَّاكِب الْبَحْر توهمه لمشي الْبَحْر فِي صِحَة رُؤْيَة الْبَحْر وَكَذَلِكَ من رأى رجلا من مَكَان بعيد جدا فتوهمه صَبيا أَو طائرا فقد رَآهُ بِعَيْنِه وَلم يقْدَح فِي صِحَة رُؤْيَته توهم الصُّورَة على غير مَا هِيَ لكنه فِي الْيَقَظَة يكذب الْوَهم فِي ذَلِك التَّوَهُّم لحُصُول الْعقل وَلَا يكذب الْعقل الْوَهم فِي حَال النّوم بل يعْتَقد صدقه لعزوب الْعقل عَن النّظر فِي الدَّلِيل فيعتقد الصُّورَة الدَّاخِلَة فِي الخيال لَا وجود لَهَا من خَارج فَإِذا اسْتَيْقَظَ انحل الِانْعِقَاد بتجديد النّظر وَبَقِي النّظر فِي تِلْكَ الصُّورَة المتوهمة فَإِن الله تَعَالَى لم
(1/246)
____
يخلقها دَاخل الخيال إِلَّا ليتعلق بهَا تَأْوِيل الرُّؤْيَا فيختلف التَّأْوِيل على حسب الصُّورَة المتوهمة الَّتِي لَا وجود لَهَا من خَارج
تَعْلِيق
فصل
لَا شكّ أَنه لم يجز للشَّيْطَان أَن يتَمَثَّل على صُورَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فأحرى أَن لَا يتَمَثَّل بِاللَّه عز وَجل وأجدر بِأَن تكون رُؤْيا الله تَعَالَى فِي الْمَنَام حَقًا وَأَن لَا يكون تَخْلِيطًا من الشَّيْطَان هَذَا على قَول طَائِفَة مِنْهُم أَبُو بكر بن الْعَرَبِيّ وَأما على قَول طَائِفَة أُخْرَى من الْعلمَاء فَإِنَّهُم ذَهَبُوا إِلَى أَن الْعِصْمَة من تصور الشَّيْطَان وتمثله إِنَّمَا هِيَ فِي حق النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَنَّهُ بشر تجوز عَلَيْهِ الصُّور فصرف الله عز وَجل الشَّيْطَان أَن يتَمَثَّل بِهِ لِئَلَّا تختلط رُؤْيَاهُ بالرؤيا الكاذبة وَهَذَا الْكَلَام لَهُ تَتِمَّة ذكرهَا ابْن بطال فِي شرح البُخَارِيّ اختصرتها وَمن تَأمل الْفَصْل من أَوله عرف القَوْل وضده ودله ذَلِك على معنى مَا تركته وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق {لَيْسَ كمثله شَيْء وَهُوَ السَّمِيع الْبَصِير}
بَيَان صغر الشَّيْطَان يَوْم عَرَفَة
فصل
فِي بَيَان صغر الشَّيْطَان ودحره وحقارته وغيظه يَوْم عَرَفَة روى مَالك فِي الْمُوَطَّأ من حَدِيث طَلْحَة بن عبد الله بن كريز أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لم ير الشَّيْطَان يَوْمًا مَا هُوَ فِيهِ أَصْغَر وَلَا أَدْحَر وَلَا أَحْقَر وَلَا أَغيظ مِنْهُ فِي يَوْم عَرَفَة وَمَا ذَاك إِلَّا لما يرى من تنزل الرَّحْمَة وَتجَاوز الله تَعَالَى عَن الذُّنُوب الْكِبَار إِلَّا مَا رأى يَوْم بدر فَإِنَّهُ رأى جِبْرِيل يَزع الْمَلَائِكَة