الِاخْتِلَاف على جنَّة آدم
الِاخْتِلَاف على جنَّة آدم
فصل اخْتلف الْمُفَسِّرُونَ فِي الْجنَّة الَّتِي ادخلها آدم هَل هِيَ فِي السَّمَاء أَو فِي الأَرْض وَإِذا كَانَت فِي السَّمَاء هَل هِيَ جنَّة الْخلد أَو جنَّة أُخْرَى فالجمهور على أَنَّهَا هِيَ الَّتِي فِي السَّمَاء وَهِي جنَّة المأوى لظَاهِر الْآيَات وَالْأَحَادِيث كَقَوْلِه تَعَالَى {وَقُلْنَا يَا آدم اسكن أَنْت وزوجك الْجنَّة} وَالْألف وَاللَّام لَيست للْعُمُوم وَلَا لمعهود لَفْظِي وَإِنَّمَا تعود على مَعْهُود ذهني وَهُوَ المستقر شرعا من جنَّة المأوى وكقول مُوسَى لآدَم عَلَيْهِمَا الصَّلَاة وَالسَّلَام اخرجتنا ونفسك من الْجنَّة وروى مُسلم فِي صَحِيحه من حَدِيث أبي مَالك الْأَشْجَعِيّ واسْمه سعد بن طَارق عَن أبي حَازِم سَلمَة بن دِينَار عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يجمع الله النَّاس فَيقوم الْمُؤْمِنُونَ حِين تزلف لَهُم الْجنَّة فَيَأْتُونَ آدم فَيَقُولُونَ يَا أَبَانَا استفتح لنا الْجنَّة فَيَقُول وَهل اخرجكم من الْجنَّة إِلَّا خَطِيئَة أبيكم وَرَوَاهُ مُسلم أَيْضا من حَدِيث أبي مَالك عَن ربعي عَن حُذَيْفَة وَهَذَا فِيهِ قُوَّة جَيِّدَة ظَاهِرَة فِي الدّلَالَة على أَنَّهَا جنَّة المأوى وَقَالَ آخَرُونَ بل الْجنَّة الَّتِي أسكنها آدم لم تكن جنَّة الْخلد لِأَنَّهُ كلف فِيهَا أَن لَا يَأْكُل من تِلْكَ الشَّجَرَة وَلِأَنَّهُ نَام فِيهَا وَأخرج مِنْهَا وَدخل عَلَيْهِ إِبْلِيس فِيهَا وَهَذَا مِمَّا يُنَافِي أَن تكون جنَّة المأوى وَهَذَا القَوْل محكي عَن أبي بن كَعْب وَعبد الله بن عَبَّاس ووهب ابْن مُنَبّه وسُفْيَان بن عُيَيْنَة وَاخْتَارَهُ ابْن قُتَيْبَة فِي المعارف وَالْقَاضِي مُنْذر ابْن سعيد البلوطي فِي تَفْسِيره وَحَكَاهُ عَن أبي حنيفَة الإِمَام وَأَصْحَابه وَنَقله أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن عمر الرَّازِيّ عَن أبي الْقَاسِم وَأبي مُسلم الْأَصْبَهَانِيّ وَنَقله الْقُرْطُبِيّ فِي تَفْسِيره عَن الْمُعْتَزلَة والقدرية وَحكى الْخلاف فِي هَذِه الْمَسْأَلَة أَبُو مُحَمَّد بن حزم فِي الْملَل والنحل وَأَبُو مُحَمَّد بن عَطِيَّة فِي تَفْسِيره وَأَبُو عِيسَى الرماني فِي تَفْسِيره وَحكى عَن الْجُمْهُور الأول وَأَبُو الْقَاسِم الرَّاغِب وَالْقَاضِي الْمَاوَرْدِيّ فِي تَفْسِيره فَقَالَ وَاخْتلف فِي الْجنَّة الَّتِي أسكنها يَعْنِي آدم وحواء على قَوْلَيْنِ أَحدهمَا إِنَّهَا جنَّة الْخلد وَالثَّانِي أَنَّهَا جنَّة أعدهَا الله تَعَالَى لَهما وَجعلهَا دَار ابتلاء وَلَيْسَت جنَّة الْخلد الَّتِي جعلهَا
(1/265)
____
دَار جَزَاء وَمن قَالَ بِهَذَا القَوْل اخْتلفُوا على قَوْلَيْنِ أَحدهمَا إِنَّهَا فِي السَّمَاء لِأَنَّهُ أهبطهما مِنْهَا وَهَذَا قَول الْحسن وَالثَّانِي أَنَّهَا فِي الأَرْض لِأَنَّهُ امتحنهما فِيهَا بِالنَّهْي عَن الشَّجَرَة الَّتِي نهيا عَنْهَا دون غَيرهَا من الثِّمَار وَهَذَا قَول ابْن يحيى وَكَانَ ذَلِك بعد أَمر إِبْلِيس بِالسُّجُود لآدَم وَالله أعلم بصواب ذَلِك هَذَا كَلَامه فقد تضمن كَلَامه حِكَايَة ثَلَاثَة أَقْوَال وَكَلَامه مشْعر بِالْوُقُوفِ وَلِهَذَا حكى الرَّازِيّ فِي تَفْسِيره أَرْبَعَة أَقْوَال وَجعل الْوَقْف هُوَ الرَّابِع وَحكى القَوْل بِأَنَّهَا فِي السَّمَاء وَلَيْسَت جنَّة المأوى عَن أبي عَليّ الجبائي وَقد أورد أَصْحَاب القَوْل الثَّانِي سؤالا يحْتَاج مثله إِلَى جَوَاب فَقَالُوا لَا شكّ أَن الله تَعَالَى طرد إِبْلِيس حِين امْتنع من السُّجُود عَن الحضرة الإلهية وَأمره بِالْخرُوجِ عَنْهَا والهبوط مِنْهَا وَهَذَا الْأَمر لَيْسَ من الْأَوَامِر الشَّرْعِيَّة بِحَيْثُ يُمكنهُ مُخَالفَته وَإِنَّمَا هُوَ أَمر قدري لَا يُخَالف وَلَا يمانع وَلِهَذَا قَالَ {فَاخْرُج مِنْهَا فَإنَّك رجيم} وَالضَّمِير عَائِد إِلَى الْجنَّة أَو السَّمَاء أَو الْمنزلَة وأيا مَا كَانَ فمعلوم أَنه لَيْسَ لَهُ الْكَوْن قدرا فِي الْمَكَان الَّذِي طرد عَنهُ وَأبْعد مِنْهُ لَا على سَبِيل الِاسْتِقْرَار وَلَا على الْمُرُور والاجتياز قَالُوا وَمَعْلُوم من سياقات الْقُرْآن أَنه وسوس لآدَم وخاطبه بقوله {هَل أدلك على شَجَرَة الْخلد وَملك لَا يبْلى} وَبِقَوْلِهِ {مَا نهاكما رَبكُمَا عَن هَذِه الشَّجَرَة} إِلَى قَوْله {بغرور} وَهَذَا ظَاهر فِي اجتماعه مَعَهُمَا فِي جنتهما وأجيبوا عَن هَذَا بِأَنَّهُ لَا يمْتَنع أَن يجْتَمع بهما فِي الْجنَّة على سَبِيل الْمُرُور لَا على سَبِيل الِاسْتِقْرَار بهَا أَو أَنه وسوس لَهما وَهُوَ على بَاب الْجنَّة أَو من تَحت السَّمَاء وَفِي الثَّالِثَة نظر وَالله أعلم وَمِمَّا احْتج بِهِ أَصْحَاب هَذِه الْمقَالة مَا رَوَاهُ عبد الله بن الإِمَام أَحْمد فِي الزِّيَادَات عَن هدبة ابْن خَالِد عَن حَمَّاد بن سَلمَة عَن حميد عَن الْحسن الْبَصْرِيّ عَن يحيى بن ضَمرَة عَن أبي بن كَعْب قَالَ إِن آدم لما احْتضرَ اشْتهى قطفا من عِنَب الْجنَّة فَانْطَلق بنوه ليطلبوه فلقيتهم الْمَلَائِكَة فَقَالُوا أَيْن تُرِيدُونَ يَا بني آدم فَقَالُوا إِنَّا أَبَانَا اشْتهى قطفا من عِنَب الْجنَّة فَقَالُوا لَهُم ارْجعُوا فقد كفيتموه فَانْتَهوا إِلَيْهِ فقبضوا روحه وغسلوه وحنطوه وكفنوه وَصلى عَلَيْهِ جِبْرِيل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَالْمَلَائِكَة وَبَنوهُ خلف الْمَلَائِكَة ودفنوه وَقَالُوا هَذِه سنتكم فِي مَوْتَاكُم قَالُوا فلولا أَن الْوُصُول إِلَى الْجنَّة الَّتِي كَانَ فِيهَا آدم الَّتِي
(1/266)
____
اشْتهى مِنْهَا القطف مُمكنا لما ذَهَبُوا يتطلبون ذَلِك فَدلَّ على أَنَّهَا فِي الأَرْض لَا فِي السَّمَاء وَالله أعلم قَالُوا والاحتجاج بِأَن الْألف وَاللَّام فِي قَوْله {اسكن أَنْت وزوجك الْجنَّة} لم يتَقَدَّم مَعْهُود يعود عَلَيْهِ فَهُوَ الْمَعْهُود الذهْنِي مُسلم وَلَكِن هُوَ مَا دلّ عَلَيْهِ سِيَاق الْكَلَام فَإِن آدم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام خلق من الأَرْض وَلم ينْقل أَنه رفع إِلَى السَّمَاء وَخلق ليَكُون فِي الأَرْض وَبهَا أعلم الرب سُبْحَانَهُ الْمَلَائِكَة حَيْثُ قَالَ تَعَالَى {إِنِّي جَاعل فِي الأَرْض خَليفَة} قَالُوا وَهَذَا كَقَوْلِه تَعَالَى {إِنَّا بلوناهم كَمَا بلونا أَصْحَاب الْجنَّة} فالألف وَاللَّام لَيست للْعُمُوم وَلم يتَقَدَّم مَعْهُود لَفْظِي وانما هُوَ الْمَعْهُود الذهْنِي الَّذِي دلّ عَلَيْهِ السَّاق وَهُوَ الْبُسْتَان قَالُوا وَذكر الهبوط لَا يدل على النُّزُول من السَّمَاء قَالَ الله تَعَالَى {قيل يَا نوح اهبط بِسَلام منا} وَإِنَّمَا كَانَ فِي السَّفِينَة حَتَّى اسْتَقَرَّتْ على الجودى ونضب المَاء عَن وَجه الأَرْض أَمر أَن اهبط اليها هُوَ وَمن كَانَ مُبَارَكًا عَلَيْهِ وَقَالَ {اهبطوا مصرا فَإِن لكم مَا سَأَلْتُم} وَقَالَ تَعَالَى {وَإِن مِنْهَا لما يهْبط من خشيَة الله} وَهَذَا كثير فِي الْأَحَادِيث واللغة قَالُوا وَلَا مَانع بل هُوَ الْوَاقِع إِن الْجنَّة الَّتِي أسكنها الله آدم كَانَت مُرْتَفعَة على سَائِر بقاع الأَرْض ذَات أَشجَار وثمار وظلال ونعيم ونضرة وسرور كَمَا قَالَ تَعَالَى {إِن لَك أَلا تجوع فِيهَا وَلَا تعرى} أَي لَا يذل باطنك بِالْجُوعِ وَلَا ظاهرك بالعرى {وَأَنَّك لَا تظمأ فِيهَا وَلَا تضحى} أَي لَا يمس باطنك حر الظمأ وَلَا ظاهرك حر الشَّمْس وَلِهَذَا قرن بَين هَذَا وَهَذَا لما بَينهمَا من الْمُقَابلَة فَلَمَّا كَانَ مِنْهُ مَا كَانَ من أكله من الشَّجَرَة الَّتِي نهى عَنْهَا أهبط إِلَى أَرض الشَّقَاء والتعب وَالسَّعْي وَالنّصب والكدوالنكد والابتلاء والاختبار والامتحان وَاخْتِلَاف السكان دينا وأخلاقا وأعمالا وتعودا وإرادات كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَلكم فِي الأَرْض مُسْتَقر ومتاع إِلَى حِين} وَلَا يلْزم من هَذَا أَنهم كَانُوا فِي السَّمَاء كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَقُلْنَا من بعده لبني إِسْرَائِيل اسكنوا الأَرْض فَإِذا جَاءَ وعد الْآخِرَة جِئْنَا بكم لفيفا} وَمَعْلُوم أَنهم كَانُوا فِي الأَرْض لم يَكُونُوا فِي السَّمَاء