الفَصْلُ الثَّانِي مِن شروطِ الدُّعاءِ وآدابِهِ
الفَصْلُ الثَّانِي
مِن شروطِ الدُّعاءِ وآدابِهِ
مِن شروطِ الدُّعاءِ:
1 - التوحيدُ والإخلاصُ فيه:
قال تعالى: {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلاَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ }. [الزُّمَر: 14 - 15]
وقال تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ }. [الرّعد: 14]
(1/25)
____
2 - ومنها أنْ يكونَ المَطْعَمُ والمَشْرَبُ والمَلْبَسُ حلالاً:
«ذَكَرَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ، أَشْعَثَ أغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ، يَا رَبِّ، يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ، فَأَنّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ؟!». (13)
ومِنْ آدابِ الدُّعاءِ:
1 - أَنْ يُفتَتَحَ الدُّعاءُ بحمدِ اللهِ والثَّناءِ عليهِ، والصَّلاةِ والسَّلامِ على النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، ويُخْتَتَمَ بذلك:
سمع النبيُّ صلى الله عليه وسلم رجلاً يدعو في صلاته فلم يصلِّ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «عَجِلَ هَذَا»، ثم دعاه فقال له،
(13) أخرجه مسلم؛ كتاب الزكاة، باب: قبول الصدقة من الكسب الطيب وتربيتها، برقم (1015)، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(1/26)
____
أو لغيره: «إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيَبْدَأْ بِتَحْمِيدِ اللهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ، ثُمَّ لِيُصَلِّ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ لِيَدْعُ بَعْدُ مَا شَاءَ».
وقال عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لِمَنْ حَمِدَ اللهَ وصلَّى على النبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «أَيُّهَا الْمُصَلِّي ادْعُ تُجَبْ» (14).
2 - أَنْ يَعْزِمَ الداعي في المسألةِ:
قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا دَعَا أَحَدُكُمْ فَلْيَعْزِمِ الْمَسْأَلَةَ، وَلاَ يَقُولَنَّ: اللهُمَّ إِنْ شِئْتَ فَأَعْطِنِي، فَإِنَّهُ لاَ مُسْتَكْرِهَ لَهُ» (15).
(14) أخرجه الترمذي - بلفظه - كتاب الدعوات، باب: في إيجاب الدُّعاء بتقديم الحمد والثناء والصلاة على النبيّ صلى الله عليه وسلم قبله، برقم (3477)، عن فَضالةَ بن عُبيد رضي الله عنه، وقال: «هذا حديث حسن صحيح». اهـ. وأبو داود؛ كتاب: الوتر، باب: الدعاء، برقم (1481)، عنه أيضًا. والحاكم في مستدركه (1/ 230) من حديثه أيضًا، وصحَّحه على شرط مسلم، ووافقه الذهبي.
(15) أخرجه البخاريّ؛ كتاب الدعوات، باب: ليعزم المسألة فإنه لا مكره له، برقم (6338) عن أنس رضي الله عنه. ومسلم؛ كتاب الذّكر والدُّعاء، باب: العزم بالدُّعاء ولا يقل إن شئت، برقم (2678) عنه أيضاً. واللفظ للبخاري.
(1/27)
____
3 - ألاَّ يعجَلَ استِجابَةَ الدُّعاءِ:
قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «يُسْتَجَابُ لأَحَدِكُمْ مَا لَمْ يَعْجَلْ، يَقُولُ: دَعَوْتُ فَلَمْ يُستَجَبْ لِي» (16).
4 - ألاَّ يتكلَّفَ السَّجْعَ في الدُّعاءِ، ولا يرفعَ صوتَه به:
قال تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ }. [الأعرَاف: 55] وقد فُسِّر الاعتداء - في معنى الآية - بتكلُّف السَّجْع في عبارات الدعاء، أو التفصيل فيه بتكلُّفٍ، وكذلك فسُرِّ برفع الصوت به،
(16) متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أخرجه البخاريّ؛ كتاب الدعوات، باب: يستجاب للعبد مالم يعجَل برقم (6340). ومسلم؛ كتاب الذّكر والدُّعاء، باب: بيان أنه يستجاب للداعي ما لم يعجَل برقم (2735).
(1/28)
____
قالَ ابنُ عَّباسٍ رضي الله عنهما لعِكْرِمَةَ رحمه الله: [فَانُظرِ السَّجْعَ مِنَ الدُّعَاءِ فَاجْتَنِبْهُ، فَإِنِّي عَهِدتُّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابَهُ لا يَفْعَلُونَ إِلاَّ ذَلِكَ] (17).
وقال عبد الله بن مغفل رضي الله عنه لابنه حين سمعه يدعو: اللَّهم إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة، إذا دخلتُها!! قال له: أيْ بُنَيَّ، سَلِ الله الجنة وعُذْ به من النار، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «سَيَكُونُ قَوْمٌ يَعْتَدُونَ فِي الدُّعَاءِ» (18).
(17) أخرجه البخاريّ؛ كتاب الدعوات، باب: ما يكره من السَّجْع في الدُّعاء، برقم (6337) عن ابن عباس رضي الله عنهما. ومعنى: " لا يفعلون إلا ذلك" أي لا يفعلون إلا ذلك الاجتناب. كما بيّنه البخاريّ عقب الرواية.
(18) أخرجه ابن ماجَهْ؛ كتاب: الدعاء، باب: كراهية الاعتداء في الدعاء، برقم (3864)، عن أبي نعامة رضي الله عنه، صحّحه الألباني، انظر: صحيح ابن ماجه، برقم (3116).
(1/29)
____
ويقول النبيُّ صلى الله عليه وسلم مرشدًا مَنْ جَهَرَ بالتكبير في سفره: «أَيُّهَا النَّاسُ ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، إِنَّكُمْ لَسْتُمْ تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلاَ غَائِبًا، إِنَّكُمْ تَدْعُونَ سَمِيعًا بَصِيرًا» (19).
هذا، ومن الاعتداء بالدعاء كذلك: أن يخالف الداعي في المعنى بين ما يدعو به وما يتوسَّل به من أسماء الله الحسنى وصفاته العُلى، كأن يدعو قائلاً: اللَّهم اغفر لي وارحمني يا شديد العقاب، أو يقول: اللَّهم عليك بالكافرين الظالمين يا أرحم
(19) أخرجه البخاري؛ كتاب الدعوات، باب: لا حول ولا قوة إلا بالله، برقم (6409)، عن أبي موسى رضي الله عنه. ومسلم؛ كتاب: الذكر والدعاء، باب: استحباب خفض الصوت بالذكر، برقم (2704)، عنه أيضًا. واللفظ لمسلم.
(1/30)
____
الراحمين، ونحو ذلك.
والحاصل من ذلك كلِّه: أن الأَوْلَى بالمسلم أن يخفض صوته في الدعاء، فيكون ذلك بين المخافتة فيه والجهر به، ثم أن يقتصر في دعائه على المأثور، وبخاصةٍ الجامع منه، فما كلُّ أحدٍ يُحسن الدعاء، فيُخاف عليه عندها الاعتداءُ به.
5 - استقبالُ الداعي القِبلةَ، معَ رفعِ اليدينِ، وبخاصَّةٍ في الاستسقاءِ:
«دَعَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَاسْتَسْقَى، ثُمَّ اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ وَقَلَبَ رِدَاءَهُ» (20).
(20) متفق عليه من حديث عبد الله بن زيد المازني رضي الله عنه: أخرجه البخاريّ؛ كتاب الدعوات، باب: الدُّعاء مستقبِل القبلة، برقم (6343). ومسلم؛ كتاب صلاة الاستسقاء، برقم (894).
(1/31)
____
وقد ثَبَتَ كذلكَ دعاؤُهُ صلى الله عليه وسلم في الاستسقاءِ في خُطْبَةِ الجُمُعةِ غَيْرَ مُستقبِلٍ الْقِبْلَة (21).
وقد دعَا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ثم رفَعَ يدَيْهِ حتى رأى بعضُ الصَّحابةِ - منهم أبو موسى وأنسٌ رضي الله عنهما - بياضَ إِبْطَيْهِ صلى الله عليه وسلم (22).
6 - الخشوعُ وحُضوُر القلبِ في الدُّعاءِ، مع اليقين بالإجابة:
قال تعالى: [الأنبيَاء: 90] {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ}.
وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «ادْعُوا اللهَ وَأَنْتُمْ
(21) أخرجه البخاريّ؛ كتاب الاستسقاء، باب: الاستسقاء في خُطبة الجمعة غير مستقبِل القبلة، برقم (1014)، عن أنس رضي الله عنه، وفي كتاب الدعوات، باب: الدُّعاء غير مستقبِل القبلة، برقم (6342)، عنه أيضاً.
(22) أخرجه البخاريّ؛ كتاب الاستسقاء، باب: رفع الإمام يده في الاستسقاء، برقم (1031)، عن أنس رضي الله عنه، وكذا أخرجه في كتاب الدعوات، باب: رفع الأيدي في الدُّعاء برقم (6341)، عنه أيضاً. وأخرجه مسلم بنحوه؛ كتاب صلاة الاستسقاء، باب رفع اليدين بالدُّعاء في الاستسقاء، برقم (895)، عنه أيضاً.
(1/32)
____
مُوقِنُونَ بِالإِْجَابَةِ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ لاَ يَسْتَجِيبُ دُعَاءً مِنْ قَلْبٍ غَافِلٍ لاَهٍ» (23).
7 - أن يُلِحَّ في الدُّعاءِ، ويكرِّرَه:
قالت عائشةُ رضي الله عنها: «حَتَّى إِذَا كَاَن ذَاتَ يَوْمٍ، أَوْ ذَاتَ لَيْلَةٍ، دَعَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ دَعَا، ثُمَّ دَعَا ... ». (24)
8 - أن يتوسَّلَ إلى اللهِ تعالى بأسمائه الحُسنى:
قال تعالى: {وَلِلَّهِ الأَْسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ *وَمِمَنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [الأعرَاف: 180].
(23) أخرجه الترمذيُّ؛ كتاب: الدعوات، بابٌ بعد بابٍ في إيجاب الدعاء بتقديم الحمد والثناء، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم قبله، برقم (3479)، عن أبي هريرة رضي الله عنه. حسّنه الألباني رحمه الله. انظر: صحيح الترمذيُّ برقم (2766).
(24) جزء من حديث أخرجه البخاريّ؛ كتاب الدعوات، باب: تكرير الدُّعاء، برقم (6391) عن عائشة رضي الله عنها. ومسلم؛ كتاب السلام، باب: السِّحر، برقم (2189) عنها أيضاً. واللفظ لمسلم.
(1/33)
____
9 - أن يتوسلَ إلى اللهِ تعالى بصالحِ عملِهِ:
صحَّ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قصةُ ثلاثةِ رَهْطٍ، مِمَّنْ كَانُوا قَبْلَنَا، آواهمُ المبيتُ إلى غارٍ فسدَّتْ عليهمُ الغارَ صخرةٌ مِنَ الجبَلِ؛ فدعا الأَوّلُ متوسِّلاً بمزيدِ بِرِّهِ بأبوَيْه، والثاني بعِفَّتهِ عن الزِّنى مع عِظَمِ الدَّاعي إليه، والثالثُ بحفظِهِ الأمانةَ ورَدِّهاَ تامَّةً مثمَّرةً لصاحبِها، فانفرجَ في دعوةِ كلِّ واحدٍ منهم شيءٌ منها، فلمّا انفرجَتْ كلُّها خرجوا يمشُون (25).
(25) اختصار لمعنى حديثٍ في الصحيحين: أخرجه البخاريّ؛ كتاب البيوع، باب إذا اشترى شيئاً، برقم (2215)، عن ابن عمر رضي الله عنهما. ومسلم؛ كتاب الذّكر والدُّعاء، باب قصّة أصحاب الغار الثلاثة، برقم (2743) عنه أيضاً.
(1/34)
____
10 - أن يتحرّى في دعائِه الجوامعَ منه:
وجوامع الدعاء هي: الأدعية الجامعة لخير الدنيا والآخرة، مما كان لفظه قليلاً، ومعناه كثيرًا (26). فقد «كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَسْتَحِبُّ الْجَوَامِعَ مِنَ الدُّعَاءِ، وَيَدَعُ مَا سِوَى ذَلِكَ» (27).
هذا، وإن الآداب في الدُّعاءِ كثيرةٌ، اقتصرتُ على أهمِّها، راجياً من اللهِ تعالى حُسْنَ القَبول.
...
(26) انظر: عون المعبود للعظيم آبادي (4/ 209).
(27) أخرجه أبو داود؛ كتاب الوتر، باب: الدُّعاء، برقم (1482) عن عائشة رضي الله عنها. وابن حِبّان في «صحيحه»، برقم (2412).
(1/35)