الفصل الثاني: عناصر البيئة الطبيعة والإنسان
الفصل الثاني: عناصر البيئة الطبيعة والإنسان
المناخ والإنسان
مدخل
...
الفَصلُ الثَّاني: عَنَاصِر البيئة الطَّبيعّية والإنسَان:
أولا- المناخ والإنسان:
يعد المناخ من العناصر الطبيعية البارزة التي تؤثر على النشاط البشري وتطوره؛ ذلك لأنه العامل الرئيسي الذي يكون الحياة النباتية ويحدد مظاهر الارتباط النباتي والحيواني في البيئة الطبيعية، ولذا فإن النطاقات المناخية الرئيسية على سطح الأرض تكون الإطارات الرئيسية التي تتمثل بها أوجه النشاط البشري.
وتعتمد طبيعة الغطاء النباتي على ظروف درجات الحرارة وقد أثبت علماء الزراعة أن لكل نبات حد أدنى من درجات الحرارة "صفر النمو" يتوقف نموه إذا هبطت الحرارة عن هذا الحد كذلك فإن هناك درجة حرارة مثلى يكون النبات في أقصى درجات حيويته أثناءها، ولذا فإن صفر النمو والحرارة العالية يعتبران من العوامل المحددة لنمو النبات في البيئات الطبيعية المختلفة، وبالرغم من جهود علماء النبات في انتخاب أنواع من الزراعات تقل احتياجاتها الحرارية ومن ثم يتسع مدى زراعتها نحو الشمال القطبي كما هو الحال في الزراعات السوفيتية إلا أن درجات الحرارة ما زالت العنصر المناخي الرئيسي المحدد للقطاعات الزراعية في العالم فالحد الشمالي مثلا للأقاليم التي ينمو بها نخيل البلح يتمشى تماما مع الخط الحراري 65 درجة فهرنهيت "19 درجة مئوية" كذلك فإن العامل الرئيسي في تحديد زراعة الكروم هو درجة حرارة الصيف ذلك لأن العنب ينضج فقط في تلك الأقطار التي يزيد متوسط درجة الحرارة بها عن 59 درجة فهرنهيت "15 درجة مئوية" في الفترة من أبريل حتى أكتوبر، وتتأثر النباتات بدرجات الحرارة أكثر من تأثر الحيوانات بها ومع وجود استثناءات قليلة فإنه من المستحيل اليوم أقلمة النبات في أماكن يكون النظام الحراري بها مختلفا عن مثيله في البيئة الأصلية للنبات.
ويؤدي تتابع الفصول إلى تنظيم دورة الحياة النباتية ووجود مهن وتحركات سكانية مترتبة عليها حيث يرتبط بذلك العمل الزراعي تبعا لأوقات نمو النبات المختلفة وتخضع حركة الرعاة من وإلى المرتفعات الجبلية عبر السهول الدنيا لدورة التغير في الحياة النباتية هي الأخرى.
ولما كانت درجات الحرارة هي العنصر الحيوي في توزيع النباتات فمن الواضح أن نموها يعتمد بالدرجة الأولى على كمية الإشعاع الشمسي خلال السنة أو بمعنى آخر على عدد الأيام الدفيئة، ومن هنا فإن الأقاليم المناخية الكبرى وهي الباردة والمعتدلة والحارة ذات مغزى كبير في جغرافيا النباتات.
وتتأثر درجة الحرارة بعدة عوامل أبرزها موقع المكان بالنسبة لدوائر العرض Latitude وارتفاع المكان عن سطح البحر ثم الموقع بالنسبة للبحار والمحيطات ويعد الموقع الفلكي "بالنسبة لدوائر العرض" المؤثر في تحديد الزاوية التي تسقط بها أشعة الشمس على سطح الأرض وكذلك في تحديد طول الليل والنهار في فصول السنة المتعاقبة فعند خط الاستواء تسقط أشعة الشمس عمودية على الأرض في معظم أيام السنة، أما بالقرب من الدوائر القطبية فإن هذه الأشعة تسقط مائلة جدا وخاصة في نصف السنة الشتوي ويترتب على ذلك أن يكون المتوسط السنوي لما يصيب الأرض من الأشعة عند خط الاستواء أكبر منه في العروض الأخرى ويزداد الفرق كلما بعدنا عن خط الاستواء حتى إن نصيب البلاد الواقعة عند دائرة عرض 40 درجة شمالا أو جنوبا يعادل 3/4 نصيب البلاد الواقعة عند خط الاستواء1.
كذلك فإنه يلاحظ أن ما تستفيده الأرض من أشعة الشمس يتوقف على طول النهار الذي يتوقف بدوره على الموقع بالنسبة لدوائر العرض، فمن الثابت أن طول النهار يزداد على حساب الليل في فصل الصيف والعكس في فصل الشتاء، وتزداد هذه الظاهرة بوضوح بالابتعاد عن خط الاستواء ولهذا فإنه على الرغم من أن المتوسط السنوي لما يصيب الأرض من أشعة الشمس عند القطب صغير في جملته بالنسبة للعروض الأخرى فإنه يكون في الفترة من أول يونيه إلى منتصف يوليه أكبر منه في أي منطقة أخرى في العالم ويرجع هذا إلى أن الشمس تستمر ظاهرة طول هذه الفترة دون انقطاع، ولكن ليس معنى ذلك أن القطب يكون في هذه الفترة أشد حرارة من أي بقعة أخرى؛ وذلك لأن معظم الحرارة المكتسبة من الشمس تستنفد في صهر طبقات الجليد السميكة التي تغطي المناطق القطبية بدلا من أن تعمل على سرعة رفع درجة حرارة الهواء1.
وعلى ذلك فإن النهار يتزايد بالاتجاه نحو القطبين حيث يصل طوله إلى 14 ساعة و 34 دقيقة عند دائرة عرض 40 درجة، 15 ساعة و 45 دقيقة عند دائرة عرض 50 درجة و 17 ساعة و 44 دقيقة عند خط عرض 60، أما عند دائرة عرض 68.30 درجة فيصل إلى 24 ساعة في الصيف، ويسرع الضوء من نمو النباتات في المناطق الباردة فعلى سبيل المثال فإن الشعير الربيعي ينضج في مائة يوم وسبعة أيام في جنوب السويد بينما يحتاج إلى 89 في اللابلاند Lapland وذلك بالرغم من انخفاض الحرارة في المنطقة الأخيرة، ويرجع ذلك إلى طول فترة الإشعاع بها. كذلك فإن القمح الربيعي يحتاج في منطقة الإلزاس عند دائرة عرض 48.30 درجة إلى مدة قدرها 145 يوما بين البذر والحصاد في الوقت الذي يحتاج فيه فقط إلى 114 يوما في منطقة سيكبوتن Skibotten عند دائرة عرض 69.30 درجة شمالا، ويمكن تفسير هذا الفرق في طول فترة الإنبات إذا أدركنا أن فترة الإلزاس وهي 145 يوما تكون جملة ساعات النهار خلالها 1795 ساعة مقابل 2486 ساعة في فترة الـ 114 يوما في منطقة اللابلاند وعلى ذلك فإن طول فترة الضوء في المناطق القطبية تعوض من نقص الموسم الدفيء بها وقد أدرك الزراع في كل من الاتحاد السوفيتي والشمال الكندي ذلك في محاصيلهم التي يزرعونها في فصل النمو.
المناخ وجسم الإنسان:
يتأثر الإنسان -ككائن حي- بعناصر المناخ وأهمها الضغط الجوي والإشعاع الشمسي ودرجة الحرارة والرطوبة والرياح، ويعد التغير في الضغط الجوي أقل أهمية بالمقارنة مع باقي العناصر ذلك لأن التغيرات في الضغط البارومتري قرب مستوى سطح البحر لا يترتب عليها أي تغيرات فيزيولوجية ظاهرة في الإنسان، ويتفاوت ارتفاع قمة عمود الزئبق في البارومتر بين 950 - 1050 ملليبارا إلا أن تناقص الضغط الجوي بالارتفاع يؤثر على الإنسان تأثيرا مباشرا فعلى ارتفاع 5300 متر "17500 قدم" ينخفض الضغط إلى نصف ما هو عليه عند سطح البحر حيث يصل إلى 500 ملليبار، أما على ارتفاع 9000 متر "30.000 قدم" فإن الضغط الجوي يصبح ما بين ثلث وربع مثيله عند سطح البحر. وبالرغم من قلة مساحة الأراضي المرتفعة إلا أن هناك شعوبا قليلة استوطنت مثل هذه المناطق كما هو الحال في مرتفعات الإنديز في بيرو، وكذلك في التبت حيث تعيش بعض الجماعات على ارتفاعات تصل إلى 4500 متر "15000 قدم" أو تزيد وأحيانا تصل القطعان التي يرعاها سكان هذه المناطق إلى 5500 متر "18000 قدم".
ومن المعروف أن الإنسان إذا ارتفع من سطح البحر إلى ارتفاع 3000 متر "10000 قدم" فإنه يصاب بدوار الجبل Mountain Sickness وبضيق في التنفس والصداع وبالإعياء وإذا ارتفع عن ذلك بكثير فإنه يصاب بانهيار تام قد تعقبه الوفاة ولقد كان الاعتقاد السائد قديما أن وفاة الإنسان في الجبال العالية مرجعه سكنى هذه الجبال بالأشباح الشريرة إلى أن فسر أحد القساوسة السبب الحقيقي وراء ذلك في سنة 1590 ومنذ ذلك الوقت أثبتت التجارب أن دوار الجبل ينشأ من النقص في الأوكسجين كذلك أكدت أنه في ارتفاعات معينة فإن الجسم البشري يستطيع أن يتلاءم نسبيا مع النقص في الأوكسجين ولعل في سكان المكسيك والإنديز مثال على ذلك.
أما درجة الحرارة فهي عنصر مناخي هام مؤثر في حياة الإنسان فتبلغ حرارة الجسم البشري الطبيعية 37 درجة مئوية "98.4 ف" سواء هبطت درجة حرارة الهواء المجاور إلى -68 درجة مئوية "-90 درجة ف" كما في شمال سيبيريا أو ارتفعت إلى 60 درجة مئوية "140 فهرنهيت" كما في الصحراء الكبرى وشبه الجزيرة العربية. وفي الأقاليم المناخية قاسية البرودة يكون الكساء أمرا ضروريا بالرغم من أنه ليس كذلك في المناطق الباردة نوعا كما هو الحال في جماعات الأكالوف Alacaluf البدائية في أقصى جنوب شيلي والذين يعيشون عراة في مناطق تتراوح درجة الحرارة بها بين -4
مئوية "25 درجة ف"، 9 درجات مئوية "48 ف" في نطاق الرياح الغربية الأنتاركتيكية وقد تلاءمت هذه الجماعات فسيولوجيا مع درجات الحرارة المنخفضة، ويحتوي الغذاء عند هذه الجماعات كما هو الحال في جماعات الإسكيمو على كمية من الشحوم التي يحصلون عليها من الحيتان وغيرها من الحيوانات وهم في ذلك يهضمون كمية من الشحوم تستحيل على غيرهم من الأجناس الأخرى كما يستهلكون الأغذية التي تعطيهم أكبر قدر من الطاقة الحرارية وتتميز أجسامهم بتراكم الشحوم فيما تحت الجلد وعلى ذلك فإن الجماعات البشرية التي تعيش في المناخ البارد جدا استطاعت أن تتأقلم مع درجات الحرارة المنخفضة السائدة في بيئتها.
ويرى بعض الأنثروبولوجيين ومن بينهم بكستون Buxton أن الأنف الطويلة ذات الفتحات الضيقة التي تميز بعض الجماعات البشرية التي تعيش في المناطق الباردة والجافة تقوم بوظيفة هامة في تدفئة وترطيب الهواء المتنفس قبل أن يصل إلى الرئتين.
من ذلك يبدو أن النشاط البشري والطاقة الجسمانية تتأثران بالمناخ تأثيرا كبيرا فالحرارة العالية والرطوبة الشديدة لا تساعدان على العمل كذلك فإن الهواء الحار مع الرطوبة المنخفضة تؤذي الجلد وتؤدي إلى تشققه وينتج عنها جفاف الحلق والأنف وتزيد من قابلية الإنسان لنزلات البرد، ولذلك فإن أنسب رطوبة هي التي تتراوح بين 40 - 60% كذلك فإن هناك الأمراض التي تكثر في بيئات معينة كالحشرات والأوبئة في البيئات الحارة الرطبة مثل الملاريا والحمى الصفراء والكوليرا والتيفود والدوسنتاريا بسبب البعوض والذباب وكذلك مرض النوم الذي تسببه ذبابة تسي تسي في المناطق الاستوائية والمدارية أما في المناطق الباردة فتكثر أمراض الرئة والأنفلونزا ويتعرض جسم الإنسان لخطر النزلات الشعبية وأمراض الحنجرة والقلب وغيرها.
ويختلف توزيع الطاقة البشرية الجسمانية والذهنية في جهات العالم المختلفة باختلاف الأقاليم المناخية التي يعيش فيها ولا يمكن تجاهل أثر المناخ البارد نوعا في النشاط الفكري والجسماني إلى حد ما وأثر المناخ الحار الرطب في بعث الخمول وانحطاط الطاقة الذهنية والجسمانية.
وقد حدا ذلك ببعض الباحثين إلى إعطاء أهمية عظمى في أثر المناخ في تطور الحضارة البشرية ومنهم السورث هنتنجتون Huntington الذي توصل إلى نتائج هامة يمكن تطبيقها على نواحي النشاط البشري -بعد أن أجرى دراساته بين العمال والطلبة في شرق الولايات المتحدة وكندا- وهذه النتائج هي:
1- أن الإنسان يصل إلى أقصى درجات النشاط الجسماني إذا كانت درجة الحرارة تتراوح بين 60 - 65 درجة فهرنهيت أي بين 15 - 18 مئوية ويصل إلى أقصى درجات النشاط الذهني إذا كانت درجة الحرارة خارج المساكن تصل إلى 38 درجة ف ومع حدوث بعض الصقيع ليلا.
2- أن المناخ الذي يسير على وتيرة واحدة يقلل من النشاط الجسماني كذلك التغيرات المفاجئة في المناخ.
3- أن ارتفاع نسبة الرطوبة يزيد من النشاط البشري إذا ما كان المناخ باردا أما إذا كان المناخ حارا فهي تبعث على الكسل وانحطاط الجهد.
4- أن الطقس الإعصاري يزيد من الرغبة في العمل والقدرة عليه على ألا تكون تغيرات الطقس فجائية.
وقد دلت دراسات هنتنجتون أن هناك أربع مناطق يتمثل فيها المناخ الأمثل من حيث النشاط البشري وهي: شمال شرق الولايات المتحدة والجزر البريطانية وغرب أوروبا وجزر اليابان والجزيرة الجنوبية لنيوزيلندا وكولومبيا البريطانية بكندا.
على أن دراسة المناخ والنشاط البشري والحضارة أساسه درجة تناسب المناخ للنشاط البشري فدراسة أثر المناخ في تطور الحضارة المصرية مثلا لا يجب أن يقارن بمناخ إنجلترا بل يجب دراسة درجة ملاءمة المناخ بمصر لسكانها من ناحية النشاط والصحة والقوة الاقتصادية وكذلك فإن التطور الحضاري مختلف في الماضي عما هو عليه في الوقت الحاضر حيث تكثر الإمكانيات التي تجعل الإنسان يقي نفسه شرور الطبيعة إلى حد كبير.
ثانيا- الحياة النباتية والإنسان:
تتميز النباتات بخاصية أساسية وهي قدرتها على امتصاص العناصر الغذائية من الهواء والتربة وتحولها بعد ذلك إلى غذاء للإنسان، وحتى تصبح المادة غير العضوية غذاء للإنسان فلا بد أن تمر خلال النبات، ولذلك فقد كتب فيدال دي لابلاش الجغرافي الفرنسي المشهور قائلا: "إن النباتات وحدها هي القادرة على سحب العناصر الغذائية من الهواء، لذا فإنها تشبه مصنعا حيا للغذاء"1.
وتقوم المملكة النباتية بعد المملكة الحيوانية بالغذاء ولذا فإن الحياة النباتية الطبيعية في قطر ما تتناسق مع أنواع الحيوانات بها وكذلك فإن أنماط الحياة وخاصة بين المجتمعات البدائية ترتبط بكل من الحياتين النباتية والحيوانية وتتأثر بالتالي بالظروف المناخية السائدة بها. وأيضا فإن نطاقات الغطاء النباتي التي تغطي مساحة من سطح الأرض تفوق مساحة المناطق الجرداء والجليدية تتمشى مع أنماط الحياة البشرية بصفة عامة وهذه القطاعات الطبيعية الرئيسية تعد نطاقات بشرية إلى حد كبير وفي كل منها حياة الإنسان تتعرض لقوى البيئة الطبيعية المتمثلة في النظام المناخي والارتباط بين الحياتين النباتية والحيوانية ويستطيع الإنسان أن يغير في هذه العناصر الطبيعية بقدر ما أوتي من قوة ذاتية متمثلة في إمكانياته وأساليبه التي ابتكرها لهذا الغرض، وتلائم المجتمعات البشرية المختلفة ظروف حياتها مع ظروف بيئاتها ولكنها رغم ذلك لا تملك قدرة التغيير الكامل لهذه البيئة ولعل في دراسة المجتمعات البشرية في العالم الجديد قبل مجيء الأوروبيين إليه ما يؤكد التطابق بين الأقاليم الطبيعية وأنماط الحياة بين الشعوب ذات الأساليب البدائية فعلى كلا جانبي الاستواء كان هناك تماثل بل وأنماط مكررة لأشكال الحضارات الوثيقة الارتباط بالظروف المناخية ففي فيوردات بتاجونيا وكولومبيا البريطانية كانت هناك جماعات تمارس صيد الأسماك، وكذلك كانت هناك جماعات صيد الجاموس البري في البراري والغوناق "حيوان ثديي أمريكي من فصيلة الجمل" في البمبا وجماعات زراع الذرة في الأقاليم المدارية وشبه المدارية وزراع الكاسافا في الإقليم الاستوائي.
وبصفة عامة فإن سطح الأرض يمكن أن ينقسم إلى المناخ المداري الحار والمناخ الجاف والمعتدل والبارد وذلك منذ أن بدأ المناخ الحالي يسود الأرض -أي منذ فترة العصر الحجري الحديث- وهذه الفترة في تاريخ الإنسان أعقبت العصر الحجري القديم والذي كان المناخ فيه مختلفا وكذلك أنماط الحياة وأساليبها، وقد انتهى العصر الحجري القديم في وقت كان المناخ فيه باردا وتميز في أوروبا بامتداد الغطاء الجليدي وفي صحاري العالم القديم بظروف مناخية تتصف بالرطوبة التي ساعدت على نمو الإستبس في مناطق واسعة تعد صحراوية وقاحلة اليوم.
ولم تبدأ المدنيات القائمة على الزراعة في أقاليم العالم في وقت واحد فقد ظهرت متأخرة في العروض العليا في إسكنديناوه ويذهب بعض العلماء إلى أن البرونز كان معروفا للمصريين القدماء منذ حوالي 5000 سنة قبل الميلاد في الوقت الذي لم يبدأ فيه العصر البرونزي في السويد مثلا حتى القرن الثامن عشر أو السابع عشر قبل الميلاد وبين بعض الجماعات في شرق سيبيريا فإن عصر البرونز لم يبدأ إلا في أوائل العصر المسيحي1.
وكقاعدة عامة، فقد كان التطور بطيئا في بعض مظاهر الحضارة مثال ذلك أن استخدام الحديد يرجع إلى القرنين الخامس والثالث قبل الميلاد في السويد بينما كان مألوفا في إيطاليا منذ القرن الثاني عشر قبل الميلاد، ويرى هنتنجتون أن هناك تغيرات مناخية كبيرة قد طرأت على امتداد التاريخ البشري ويستدل على ذلك باختفاء بعض المدن في جنوب غرب آسيا مثل تدمر التي كانت مزدهرة حتى بداية العصر المسيحي وهي اليوم أطلال بالية في الصحراء كذلك فإن هناك مدنا رومانية أخرى وخاصة تلك التي شيدت على أطراف الصحراء الأفريقية تحولت إلى أطلال لعدة عوامل أبرزها تغير الظروف المناخية، بل إن هنتنجتون يرجع الثورة الزراعية التي حدثت في إيطاليا حوالي سنة 200 ق. م إلى تناقص كمية الأمطار مما ترتب عليه نقص في محصول القمح وهجرة كثير من الريفيين إلى المدن. بل إنه يربط بين التغيرات المناخية والأحداث التاريخية الكبرى مثل ثورة العبيد والاضطرابات ثم غزو البرابرة والتي ترجع كلها إلى تدهور المراعي في آسيا مما ترتب عليه هجرة الشعوب الجائعة نحو المناطق الأقل جفافا ولكن هذه الآراء تلقى الكثير من المعارضة من بعض الباحثين.
وتعتبر الحياة النباتية من العوامل الطبيعية المؤثرة في حياة الإنسان ذلك لأنها تؤثر في إنتاج الإقليم الاقتصادي وتحدد نوع الحرفة التي يقوم بها الإنسان وطريقة ومستوى معيشته فمناطق الحشائش صالحة تماما للرعي كما أنها صالحة للزراعة إذا ما أمكن حرق الحشائش بعكس الحال في مناطق الغابات التي تقل صلاحيتها للزراعة ونلاحظ أنه حيث يرتقي الإنسان وترتقي حضارته فإن عناصر البيئة الحضارية سرعان ما تغير الحياتين النباتية والحيوانية وعلى نطاق واسع فالمحاصيل المزروعة والمراعي الصناعية تحل محل النبات الطبيعي وتحل الحيوانات المستأنسة محل كثير من الحيوانات البرية.
وعلى الرغم من أن الإنسان قد أزال أجزاء من الغطاء النباتي الطبيعي في معظم بقاع العالم سواء لإحلال الزراعة محلها أو لأي غرض آخر فإن أهميتها بالنسبة للإنسان أهمية كبيرة إذا ما أدركنا أن استهلاكه من الأخشاب في أغراض البناء أو صناعة الأثاث أو في مد السكك الحديدية وصناعة السفن وغيرها في تزايد مستمر تبعا لتزايد أعداده كذلك يمكن أن تظهر الأهمية الكبرى للحياة النباتية إذا أدركنا أن ما يستهلكه العالم من لحوم وجلود وأصواف يأتي في معظمه من المناطق ذات المراعي الطبيعية التي تربى عليها قطعان ضخمة من الماشية والأغنام كما هو الحال في الأمريكتين واستراليا ونيوزيلند.
وقد يكون الغطاء النباتي حائلا للتقدم البشري في كثير من الأحيان حيث تعوق الغابات الكثيفة طرق النقل المتنوعة التي يصعب مدها فيها مثل طرق السيارات أو السكك الحديدية كما يبدو في حوض الكونغو والأمازون واللذين ما زالا حتى الآن مناطق طرد بشري وتسود بهما حرف بدائية كالصيد والجمع وغير ذلك فقد قامت مناطق الغابات بدور الحماية للجماعات المستضعفة في مواجهة الجماعات القومية فمناطق غابات الكونغو كانت ملجأ للأقزام التجئوا إليها تحت ضغط جماعات الزنج السودانيين وجماعات البانتو.
وقد ترتب على المظهر الطبيعي في مناطق الغابات أنها قليلة السكان بصفة عامة ولا يعيش فيها سوى بعض الجماعات البدائية قليلة العدد والتي يتناقص عددها في معظم الأحيان كذلك يسكن هذه الغابات بعض عمال قطع الأخشاب والصناعات القائمة عليها أو جمع منتجات الغابة.
ثالثا: العوامل الفيزيوغرافية والإنسان:
تلعب العوامل الفيزيوغرافية في البيئة الطبيعية دورا بارزا في أنماط النشاط البشري وتوجيهها فبالرغم من أن المناخ يؤثر بدوره في تحديد الأقاليم الرئيسية التي تضم أنماطا مختلفة من الحياة البشرية فإن العوامل الفيزيوغرافية هي المؤثر الرئيسي في تباين استغلال الأرض وفي اختلاف الدور الذي يقوم به الإنسان في هذا الصدد.
وتعد مظاهر السطح من العناصر الطبيعية للبيئة الجغرافية حيث توجه العمران البشري فيها وتحد من امتداده حينا أو اتساعه أحيانا والناظر إلى خريطة توزيع السكان مثلا يلمس أن جزءا كبيرا من سطح الأرض ما زال غير معمور. حتى النطاق المعمور فإن توزيع السكان به غير متساوٍ وتبلغ مساحة اليابس 148 مليون كيلو متر مربع وهو لا يشغل أكثر من 28% من سطح الأرض أما الباقي فيغطيه الماء. وتختلف مساحات القارات اختلافا جوهريا توضحه الأرقام التالية:
القارة المساحة بالكيلو متر المربع
آسيا 45.600.000
أفريقيا 30.600.000
أمريكا الشمالية 17.900.000
أمريكا اللاتينية 24.300.000
أوروبا 9.800.000
استراليا 8.500.000
القارة المتجمدة الجنوبية "انتاركتيكا" 11.400.000
الجملة 148.100.000
وبصفة عامة، فإن أشكال سطح الأرض الرئيسية تتمثل في السهول والتلال والهضاب ثم الجبال -وتختلف الآراء في تعريف كل منهما تعريفا دقيقا- إلا أن ما يهمنا هو مدى تأثيرها في أوجه النشاط البشري، وتعتبر السهول ذات التربة الخصبة والمناخ المعتدل أكثر الجهات ملاءمة لنشاط السكان ومن ثم فإنهم يتركزون بها أكثر من أي مظهر تضاريسي آخر كما هي الحال في السهول الوسطى في أمريكا الشمالية وسهول البمبا في أمريكا الجنوبية والسهل الأوروبي الشمالي وسهل الجانج والسند في الهند والباكستان والسهل الصيني الشمالي، وقد نتج هذا التركز عن عوامل متعددة توفرت في هذه السهول أهمها سهولة زراعتها وجودة تربتها وملاءمتها لإنتاج كثير من المحاصيل كذلك فإن استواء السطح في المناطق السهلية يسهم في سهولة النقل وامتداد طرق المواصلات المختلفة. وليس معنى ذلك أن وجود السهول في منطقة ما قرين بتركز السكان فيها ذلك لأن هناك سهولا فسيحة في معظم قارات العالم لا تتوفر فيها عوامل الاستقرار البشري مثل السهول القطبية في شمال أمريكا الشمالية وفي آسيا. كذلك في السهول الصحراوية الجافة كما هي الحال في وسط استراليا وجنوب الصحراء الكبرى وكذلك فإن هناك قطاعات من السهول الرطبة الحارة التي لا تشجع على التركز البشري مثل سهول الأمازون وبعض سهول وسط أفريقيا الاستوائية.
وتتعدد مظاهر التأثير التي تحدثها التضاريس على المظهر الحضاري في البيئة وذلك للترابط الكبير بين العناصر الطبيعية -فهناك علاقة وثيقة بين مظاهر السطح والمناخ يبدو ممثلا في الارتفاع- حيث تقل درجة الحرارة بمقدار درجة مئوية واحدة كلما ارتفعنا 150 مترا وتظل تنخفض بالارتفاع حتى تصل إلى خط الثلج الدائم الذي يحدد بداية الثلج الدائم والذي يكون إيذانا باختفاء الحياة النباتية والحيوانية، كذلك تعتبر الجبال من عوامل سقوط المطر حيث تكثر الأمطار على الجوانب الجبلية المواجهة للرياح المحملة بالأبخرة وتقل على الجوانب المقابلة التي تقل بها الأمطار قلة مفاجئة إن لم تكن مناطق قارية جافة.
وتختلف المناطق المرتفعة في جذبها للسكان من حيث موقعها بالنسبة لخط العرض ومن حيث ظروف المناخ السائدة بها؛ ذلك لأن الحياة النباتية تختلف هي الأخرى حسب الارتفاع السائد الذي يؤثر في درجات الحرارة والرطوبة وتعتبر الجبال جزرا نباتية تختلف عن المناطق المحيطة بها اختلافا كبيرا كذلك فإن الحياة النباتية تتدرج على المرتفعات نتيجة لعامل الارتفاع فقد توجد نباتات معتدلة بل ونباتات المناطق الباردة فوق الجبال المدارية وعلى كل هذه الظواهر الطبيعية تتوقف حياة الإنسان ففي الجهات الحارة تعتبر المناطق المرتفعة أكثر جذبا للتركز البشري من مناطق السهول التي تكون حرارتها ورطوبتها عاليتين وقد شهدت كثير من المناطق المرتفعة في الأقاليم المدارية تركزا سكانيا منذ وقت طويل تمثل في مرتفعات اليمن وهضبة الحبشة والمكسيك وبيرو كما أن مرتفعات كينيا وتنزانيا جذبت إليها بعض الأوروبيين فاستوطنوا أجزاء كبيرة منها.
وإذا كانت السهول الخصبة التربة والمعتدلة المناخ قد جذبت إليها السكان منذ القدم وتركزوا بها وكونوا في معظمها حضارات متعددة فإن الجبال قد جذبت إليها أعدادا من السكان ليقوموا بحرفة التعدين بها، ذلك لأن المناطق الجبلية هي أهم المناطق التضاريسية ثراء في معادنها والتي قد تبدو أحيانا ظاهرة على السطح وبخاصة على جوانب الأودية نتيجة لعوامل التعرية المختلفة وقد أسهم ذلك في خلق حرفة التعدين بهذه المناطق كما هو الحال في جبال الأبلاش شرق أمريكا الشمالية والروكي غربها وكذلك في جبال الإنديز في أمريكا حيث يعدن النحاس في شيلي وبيرو والقصدير في بوليفيا ومعظم المعادن في مصر توجد في المناطق الجبلية في الصحراء الشرقية أو شبه جزيرة سيناء.
وتعد التربة -ذلك الغلاف السطحي لقشرة الأرض الأصلية- العنصر الأساسي في تباين وتطور أنماط الحياة وإن كان الإنسان لم يدرك تركيبها وخصائصها إلا حديثا جدا والنوعان الرئيسيان من التربة تلك المكونة محليا نتيجة عوامل التفتت الصخري والتحلل العضوي وتلك المنقولة من أماكن أخرى بواسطة عوامل التعرية وتشتق التربات الأولى -أي المحلية التكوين- طبيعتها من الصخور الأصلية المكونة لها ومن التغيرات التي طرأت عليها إلا أنها غالبا ما تكون رملية أو فقيرة وتتعرض للانجراف بسرعة إذا ما كانت مشتقة من الجرانيت. أما إذا كانت من أصل بركاني أو جيري فإنها تميل إلى أن تكون صلصالية وثقيلة ولكنها غنية في عناصر خصوبتها وفي المناطق الحارة تسود تربة اللاتريت الحمراء المشتقة من الصخور المحلية وتتصف بفقرها في الخصوبة لنقص المواد العضوية بها.
أما التربة المنقولة عن طريق المياه الجارية أو الجليد أو الرياح فإنها غالبا ما تتكون من خليط صخري وتكون أغنى وأحسن بصفة عامة من التربات المحلية وتتمثل التربات المنقولة في المراوح الفيضية Alluvial Fans والسهول الفيضية وقد لعبت دورا خطيرا في تاريخ العمران البشري في العالم حيث ساعدت على قيام الزراعة والاستقرار بها ونشأة الحضارات القديمة والحديثة على السواء ولعل في وادي النيل في مصر والجانج في الهند واليانجتسي والهوانجهو في الصين المثل الواضح على ذلك.
وعلى العموم فإنه يمكن القول بأن استغلال الإنسان للأرض يتباين بدرجة كبيرة بتباين طبيعة التربة بها، وقد بذلت محاولة تقدير تقريبي لنسبة التربة الصالحة للزراعة في العالم في الوقت الحاضر، فوجد أنها تصل في أوروبا إلى 50% من سطحها وفي أمريكا الجنوبية إلى 25% وفي أمريكا الشمالية وأفريقيا 20% لكل منهما وفي استراليا 10% ولكن هذا التقدير يعد أوليا ويمكن أن تزداد هذه النسب دون شك لأن هناك تربات جيدة في مناطق الإستبس والغابات في قارات العالم المختلفة لم تعرف بعد ويمكن استغلالها في الزراعة بطبيعة الحال كذلك فإن الوسائل العلمية الحديثة في الزراعة يمكن أن تحسن من خصائص التربات الفقيرة وبالتالي تزيد من رقعة الأراضي الصالحة للزراعة ولا ريب في أن هناك مناطق من التربات الجيدة في عالم اليوم تعرضت للتعرية وفقدت خصوبتها بسبب حماقة الإنسان وسوء استخدامه للأرض في بعض المناطق، ففي الولايات المتحدة فقدت مساحات واسعة من الأراضي خصوبتها بسبب الزراعة الكثيفة والاستغلال المدمر في البرازيل استنزفت خصوبة مناطق شاسعة بسبب زراعة البن وأصبحت أرضا عقيمة ومن الواضح اليوم لكل الجغرافيين وعلماء الزراعة أن تدمير التربة الخصبة في كثير من مناطق العالم يكون واحدا من أكثر الأخطار الجسيمة التي ليس من السهل علاجها في ضوء المعارف الحالية للبشر، ولقد كانت تعرية التربة من العوامل المسئولة عن تدهور واختفاء حضارات مزدهرة مثل حضارة قبائل المايا Maya في أمريكا الوسطى، وربما أيضا بعض الحضارات الهندية والملاوية في الشرق الأقصى، ومن هنا فإن المشكلات المتعلقة بالتربة تبدو ذات أهمية في الجغرافية البشرية.
وتمثل الجبال مناطق من نوع خاص ذات مناخ مميز يؤثر في الحياتين النباتية والبشرية، وهناك أنماط من الحياة البشرية المتشابهة على الجبال وذلك بالرغم من تباعدها الجغرافي بعضها عن بعض من ناحية وعدم ارتباطها جنسيا من ناحية أخرى، وفي الواقع فإن الجبال تعد بيئات يبدو فيها بصرامة تأثير التضاريس والمناخ كقوى طبيعية غير عادية في مثل تلك المناطق الصغيرة نسبيا ومن ثم توجه باستمرار ردود الأفعال البشرية حيالها.
وقد وجد أن درجة الحرارة في غرب أوروبا تتناقص بمعدل درجة مئوية واحدة كلما ارتفعنا 150مترا، ومن هنا فإن النطاقات النباتية تتتابع الواحدة تلو الأخرى على منحدرات الجبال، وتنتهي المنطقة الدنيا "السفلى" التي تعد امتدادا للأراضي المنخفضة عند أقدام المنحدرات الجبلية عند ارتفاع يتراوح بين 2600 - 3000 قدم فوق سطح البحر وفي وسط سويسرا مثلا تتوقف زراعة الشعير بعد خط كنتور 2600 قدما وفوق هذه الارتفاعات تبدأ النطاقات الجبلية فيوجد غطاء غابي في بادئ الأمر حيث تكون الأمطار غزيرة، ويختلف منسوب الارتفاع الذي يختفي عنده هذا الغطاء تبعا لدرجة تعرض المنحدر لعناصر المناخ فيصل إلى 4000 قدم في مرتفعات الفوج في فرنسا، 7500 قدم في البرانس الشرقية ويلي النطاق الغابي هذا حشائش ألبية حيث تتميز الأحوال المناخية بالجفاف والبرودة ولكنها مشمسة وتتغطى الأرض بالحشائش التي تزينها الأزهار في الربيع وتسود في هذا النطاق حشائش المرتفعات الصيفية التي تقصدها القطعان من الأراضي المنخفضة تحتها وأخيرا تتوج الجبال غطاءات ثلجية دائمة، التي يتراوح ارتفاع خطها الدائم -وهو متوسط الارتفاع الذي لا يتعرض الثلج الواقع فوقه للذوبان- من جبل إلى آخر فيصل هذا الخط إلى ارتفاع 9000 قدم على المنحدرات الشمالية للبرانس، 9800 قدم في مون بلان Mont Blan وعلى ذلك فإن من يتسلق الجبال في أوروبا يستطيع أن يرى هذه النطاقات بوضوح على ارتفاعات مناسبة كما لو كان في رحلة إلى المناطق القطبية، وفي نطاق منها توجد أنماط بشرية ونباتية خاصة. وجدير بالذكر هنا أن النطاق الأدنى يتعرض لمشكلات من النطاقات التي تعلوه مثل انصراف المياه وجرف التربة واتجاهها نحوه وهبوط كتل صخرية إليه بفعل عوامل التعرية وغير ذلك. وعلى ذلك فإن البيئة الطبيعية على السلاسل الجبلية تتطلب أنماطا خاصة من الحياة.
أما الجزر فإن لها سماتها المميزة كبيئة جغرافية منعزلة وساعدت هذه العزلة على بناء أشكال قديمة ومستوطنة من الحياة بها سجلها كثير من الباحثين من أشهرهم دارون مثلا في جزر جالا باجوس Galapagos وكذلك الحال في أنماط الحياة البشرية المميزة لشعوب الجزر بخاصة المكتشفة حديثا مثل سكان جزر كارولين الذين ما زال معظمهم يعيش في العصر الحجري ومن ناحية أخرى فإن الجزر تعد معزلا وملجأ للكثير من الجماعات المستضعفة ومن ثم فإنها تتحول إلى بوتقات بشرية تجمع خليطا من الشعوب التي تتجمع لتكون مجتمعات صغيرة متحدة ومن أبرز الأمثلة على ذلك جزيرة تريستان دا كونها Tristan da Cunha الصغيرة في جنوب الأطلنطي التي استطاع 200 من سكانها أن ينجحوا في خلق مظهر من الأحوال المحلية التي سرعان ما استوعبت القادمين الجدد إليها، وكذلك كانت فورموزه ملجأ لأسرة المنج Maing الحاكمة أثناء الاضطرابات السياسية في القرن السابع عشر وقبل أن تصبح حصنا للقومية الصينية في مواجهة الشيوعية كذلك كانت سيلان ملجأ للبوذيين المطرودين من الهند.
وتساعد الجزر على تهيئة ظروف الاستقرار البشري الذي يحميه البحر آنذاك مما يساعد سكانها على استغلال مواردها الطبيعية سواء على أرضها أو في بحرها المجاور وهناك أمثلة كثيرة على ذلك.
أما البحر - الذي يحيط بكل قارات الأرض اليابسة ويخترقها بعمق في بعض أجزائها- فيكون بيئة طبيعية هو الآخر، وإن كانت بيئة قاسية من الصعب معايشتها. إلا أنه يسهم في خلق أشكال من الحياة به فهو يمثل مخزنا للغذاء -كما وصفه بعض الباحثين- استطاع الإنسان أن يستغله منذ أزمان سحيقة كما أنه كان طريقا ركبه الإنسان منذ مراحل حضارته المبكرة. فقد شهد بحر إيجة مثلا ملاحة ساحلية منذ فترة ترجع إلى الألف الثالثة قبل الميلاد كذلك فإن معرفة وانتشار الكثير من المخترعات خلال العصرين الحجري والبرونزي جاءت إلى سواحل البحر بادئة من سواحل إيجة واستمرت حتى وصلت إلى بريطانيا. وفي المحيط بحر الشمال وكذلك في المياه المحيطية باليابان وعلى شطوط نيوفولاند توجد مناطق غنية بثروتها السمكية، التي تغذت عليها الشعوب على امتداد قرون عديدة. ونتيجة لذلك فقد أدى استغلال البحر إلى خلق مهن تعكس في الواقع الظروف الطبيعية في الأقاليم الساحلية.
___
1 عبد الفتاح وهيبة: جغرافية الإنسان، دار النهضة العربية، بيروت 1971 ص10
1 عبد العزيز طريح: الجغرافيا المناخية والنباتية، الجزء الأول، 1961، ص41.
1 المرجع السابق، ص42.
1 Perpillou, A., Human Geography, London, 1972, P.5
1 Ibid, p.7.