الفَصلُ الثَّاني: نَشْأة المُدُن وتطوّرها
الفَصلُ الثَّاني: نَشْأة المُدُن وتطوّرها
تعريف المدينة وأهمية دراستها:
لم يتفق الباحثون على تعريف محدد للمدينة وإن كانت المدينة كمظهر عمراني مألوف يمكن تمييزها عن القرية بوضوح سواء في شكلها المورفولوجي الخارجي أو في وظائفها أو حتى نموها وتطورها التاريخي، ومع ذلك فليست هناك قاعدة محددة يمكن أن تحدد بواسطتها تعريف المدينة وإن كانت هناك آراء كثيرة قد قيلت في هذا الصدد.
وعلى العموم تتفق آراء الباحثين على أن المدينة هي مركز التركز السكاني والعمل والترفيه، كذلك تشترك هذه الآراء في أن هناك حدا أدنى للحجم السكاني الذي تعرف المدينة على أساسه وإن كانت الآراء قد اختلفت في ماهية هذا الحجم السكاني وعلى سبيل المثال يعد المركز العمراني في الولايات المتحدة مركزا حضريا "مدينة" إذا كان عدد سكانه 2500 نسمة فأكثر بينما يرتفع هذا الرقم إلى 30.000 نسمة في اليابان مثلا.
وعلى العموم فإن الحجم السكاني يعد عنصرا مشتركا في كثير من الآراء التي قيلت في تعريف المدينة، وهو بدوره متباين إلى حد كبير بين الدول بعضها البعض -كما ذكرنا آنفا، بل يتفاوت التعريف في الدولة نفسها من فترة زمنية لأخرى، ففي الولايات المتحدة كانت المدينة في الفترة من سنة 1880 - سنة 1900 تعرف على أنها تلك المحلة العمرانية التي يسكنها أكثر من 4000 نسمة ولكن من سنة 1900 اتخذت الرقم 2500 نسمة كحد أدنى لتصنيف المدن. أما في فرنسا وألمانيا فإن المدن هي التي يزيد عدد السكان في كل منها على 2000 نسمة.
ولعل في اختلاف الدول العربية مثلا في تعريف المدينة ما يدل على الفكرة السابقة، ففي مصر يقتصر تعريف المدينة على الوظيفة الإدارية التي تؤديها فقط ولذا فإن المدن المصرية كما ورد في تعدادات السكان الأخيرة "1960، 1966، 1976" هي عواصم المحافظات وعواصم المراكز وتسير سوريا على نفس التعريف، والأردن يعتبر عدد السكان 10000 نسمة حدا أدنى لتعريف المدن به، ولذلك فإن اختلاف التعريف بين الدول يجعل من الصعب عقد مقارنات دولية لتحديد سكان الحضر بدقة ومع ذلك فإن هذه المقارنة يمكن أن تتم في ضوء التعاريف المحلية المستخدمة لكل دولة.
وتعد بيئة المدينة أكثر البيئات الجغرافية تغيرا على الإطلاق حيث تمثل نموذجا مجسما لما أحدثه الإنسان في بيئته الجغرافية فقد استطاع أن يتركز في بقعة معينة على سطح الإقليم وأن يشيد في هذه البقعة المساكن والطرق والمصانع والمتنزهات ودور اللهو وغيرها، كما استطاع أن يغير الكثير من الملامح في مواضع المدن الأصلية، فأزال الغطاء النباتي بها وهذب الأنهار التي تمر بالمدينة وأقام الجسور عليها واستغل مياهها ومررها في أنابيب تحت السطح، وباستثناء بعض الحدائق التي زرعها الإنسان في الغالب بحشائش وأشجار مجلوبة، فإن عناصر البيئة الطبيعية في المدن شملها التغيير بصورة جوهرية، وعلى ذلك فالمدينة بحق تعد بيئة صنعها الإنسان لنفسه. أو بمعنى آخر فهي مثل مجسد على التغييرات المركبة التي أحدثها الإنسان في موطنه.
وبالرغم من أن المدن تختلف فيما بينها اختلافا جذريا -حيث إن لكل مدينة شخصيتها كما يقال- فإن دراستها ذات أهمية للجغرافي ذلك لأنها تعد بيئة فريدة بالرغم من أنها تشغل مساحات ضئيلة، ففي سنة 1960 بلغت مساحة المناطق الحضرية في الولايات المتحدة والتي يزيد عدد سكان كل منها على 50.000 نسمة نحو 25.464 ميلا مربعا، أو نحو 0.7% من جملة مساحة البلاد، وفي هذه المساحة الضئيلة جدا يعيش 96 مليون نسمة أو نحو 54% من سكان البلاد في سنة 1960. أما المدن الصغيرة التي يزيد سكان كل منها على 2500 نسمة إلى أقل من 25000 نسمة فيسكنها 29.4 مليون نسمة.
وتختلف كثافة السكان بالمدن اختلافا كبيرا، فأكبر مدن العالم لندن وطوكيو ونيويورك يتراوح متوسط الكثافة السكانية بها بين 24.000 إلى 30.000 نسمة في الميل المربع وتزيد الكثافة داخل المدن حتى تصل إلى 85.000 نسمة/ ميل2، كما هي الحال في جزيرة مانهاتن في نيويورك، ثم ما تلبث الكثافة أن تقل بالتدريج نحو الأطراف.
ويؤدي تزاحم السكان بالمدن إلى استغلال المناطق الفسيحة سواء فوق سطح الأرض أو تحت هذا السطح -وقد أدى ذلك إلى ظاهرة ناطحات السحاب التي تميز شيكاغو ونيويورك مثلا- والتي أدى نشاطها الحالي إلى الضغط على وسائل المواصلات التي وجدت متنفسا لها في الأنفاق السفلية.
ولما كان علم الجغرافية قد اتجه فيما بعد الحرب العالمية الثانية إلى دراسة مشاكل الإقليم -فيما يعرف بالجغرافيا التطبيقية التي تعنى بمشاكل توزيع وتنظيم المجتمع ومرافقه ومصالحه في الإطار الإقليمي الذي يشغله، فقد انعكس ذلك بوضوح على جغرافية المدن فقد دخلت ميدان التخطيط الإقليمي وتخطيط المدن Regional & Town Planning؛ ذلك لأن للتخطيط أساسا جغرافيا لا مفر منه سواء للمدن أو الريف.
وقد أنشئت مناهج ودراسات في الجغرافيا التطبيقية وفي التخطيط الإقليمي في كثير من الجامعات الفرنسية والأمريكية، إما في أقسام الجغرافيا أو في معاهد متخصصة لدراسة العمران الحضري. وفي إنجلترا تكاثر عدد المهتمين بجغرافية المدن التطبيقية للمساهمة في استغلال الأرض Land -Use وتخطيط المدن وأصبح هناك عدد كبير من الجغرافيين المحترفين في وزارات الإسكان والحكم المحلي يعملون جنبا إلى جنب مع المهندسين والمساحين في التخطيط وذلك للإسهام في وضع خطة عمرانية تراعي إعادة توزيع السكان في ضوء توزيع المراكز العمرانية واتجاه النمو في الإقليم، بغية تحقيق الأهداف الاقتصادية والاجتماعية للتخطيط الإقليمي.
ونحن في الدول العربية في حاجة ماسة إلى إدراك حقيقة تخطيط المدن والأقاليم وأسسه الجغرافية والاجتماعية والاقتصادية، ولا يمكن أن يتم ذلك بالصورة المنشودة إلا بالتعاون الكامل بين المهندسين من ناحية والجغرافي والاجتماعي والاقتصادي من ناحية أخرى في صورة هيئة مشتركة، بل ينبغي أن يكون لكل مدينة مكتب تخطيط مشترك يشمل المهندس والجغرافي والاجتماعي، ويكون من واجبه إجراء مسح جغرافي شامل للمدينة وإقليمها كنقطة البدء في أي تخطيط مستقبلي لها.