المدن في العصر الحديث
المدن في العصر الحديث
مدخل
...
المدن في العصر الحديث:
بالرغم أن من قيام العاصمة "مدن العواصم" في العهود القديمة وفي عصر النهضة الأوروبية أدى إلى ظهور مدن كبيرة، إلا أن التغيرات التقنية والاقتصادية التي نجمت عن الثورة الصناعية أدت إلى انقلاب في أحجام المدن، وفي نسبة السكان الذين يعيشون بها، وكذلك في محل النمو الحضري على مستوى الدول والعالم.
عوامل النمو:
يمكن إرجاع النمو الحضري الضخم في العالم في العصر الحديث إلى عدة عوامل ولكن أهمها على الإطلاق عاملان هما:
أ- الثورة الزراعية وتوفير الغذاء:
كان للثورة الزراعية التي شهدها العالم في العصر الحديث دور كبير في نمو المدن القائمة وتضخمها، وقد حدثت هذه الثورة في غرب أوروبا قبل أن تشهد الانقلاب الصناعي والتجاري، وقد تمثلت الثورة الزراعية في استخدام السماد واتباع الدورة الزراعية وإدخال أنواع جديدة من المحاصيل واستعمال البذور المنتقاة وتحسين أنواع الماشية بتربية السلالات الجيدة واستخدام بعض الآلات المستحدثة.
وقد أدى هذا التطور الزراعي الكبير إلى ازدياد الأرض دون الاستعانة بمزيد من الأيدي العاملة في الوقت الذي كان عدد السكان يزداد باستمرار، وأدى ذلك إلى البحث عن أعمال أخرى غير الزراعة طالما أنها توفر الغذاء للجميع ودون نقص في الموارد الغذائية، واتجه جزء كبير من السكان لسكنى المدن وانصرافهم عن العمل في الأرض الزراعية.
وقد واكب هذا التطور في الزراعة في غرب أوروبا اتساع مساحات الأراضي الزراعية في العالم بعد الخروج الأوربي الكبير إلى أراضي العالم الجديد واستراليا ونيوزلنده وجنوب أفريقيا.
وقد أدى ذلك كله -كما سبق القول- إلى فائض زراعي وفير بدأ بدوره يكون أساس هاما للتجارة والتبادل، التي اعتمدت هي الأخرى على تقدم وسائل النقل البحري والبري والتقدم في وسائل حفظ الطعام "بالتبريد" واستطاعت السفن أن تنقل الغلات الزراعية والمنتجات الحيوانية إلى غربي أوروبا وجهات أخرى من العالم.
وقد أدت هذه الزيادة الضخمة في إنتاج الغذاء وإمكان نقل الفائض منه إلى المناطق البعيدة إلى زيادة في عدد السكان الأوروبيين خلال القرن التاسع عشر، مما أدى بدوره إلى تزايد أحجام المدن القائمة تزايدا كبيرا حيث أدى استخدام الآلة في الزراعة إلى جعل أعداد كبيرة من العمال الزراعيين يتجهون نحو المدن بحثا عن فرص العمل.
ب- الثورة الصناعية:
لم تكن الثورة الزراعية وحدها مسئولة عن زيادة عدد سكان المدن بل أدى الانقلاب الصناعي وظهور الآلة البخارية إلي تركز السكان في المدن، وساعد على ذلك توطن الصناعة فيها حيث أصبحت مراكز جذب قوي لسكان الريف حيث الأجور العالية وفرص العمل المتوفرة وقد أدى ذلك إلى تزايد سكان المدن على حساب الريف، بل وأصبح ذلك سمة بارزة من سمات هذا العصر ليس في الأقطار المتقدمة وحدها بل وفي الدول النامية كذلك، وقد ساعد على ذلك شرايين النقل بين المدن والريف وخاصة خطوط السكك الحديدية التي أدت إلى نشر الصناعة وتقدمها ومن ثم تحسن الأحوال الاقتصادية وتزايد عدد السكان في الريف والحضر وإن كانت المدن قد شهدت معدلات نمو عالية أكثر من الريف.
ولم تصبح المدن مراكز زراعية فقط بل أصبحت مراكز اقتصادية واجتماعية تقوم بالكثير من الخدمات لسكانها ولسكان الريف المجاور، وتركزت هذه الخدمات في مكان معين بالمدينة ومن هذه الخدمات التجارة في الإنتاج الصناعي والزراعي والنقل والمحاسبة والتأمين والخدمات الصحية والتعليمية وغيرها.
وقد أدت كل هذه العوامل إلى نمو مدني هائل في العالم، حتى إن مدن العالم الغربي قد نمت خلال الربع الأخير من القرن التاسع عشر بمعدل أسرع من أي وقت مضى وكان ذلك التوسع ملحوظا بدرجة أكبر في الولايات المتحدة، وهنا أنشئت شبكة من السكك الحديدية في شرق البلاد في الأربعينات من القرن الماضي، وانتشرت باقي المراكز العمرانية بمعدل أسرع بعد ذلك في أمريكا الشمالية وخاصة على السواحل وعلى الأنهار الملاحية وعلى ضفاف البحيرات العظمى وفي المناطق الداخلية.
وتتعدد الأمثلة على النمو الحضري الكبير في دول العالم مثلما يبدو في المدن الأوروبية فقد تضاعف عدد سكان الحضر في إنجلترا وويلز في الفترة من 1871 - 1911 من 14 إلى 28 مليون نسمة، وفي نفس الفترة ارتفع سكان المدن في فرنسا من 11 مليونا إلى 17.5 مليون نسمة، فمدينة باريس مثلا بلغ عدد سكانها 518.000 نسمة في عهد نابليون الأول، ولكن بعد ذلك بخمسين عاما فقط تعدت المليون نسمة وذلك في سنة 1860 ثم وصلت إلى 6.7 مليون نسمة سنة 1950 ثم إلى 7.8 مليون نسمة سنة 1960.
وتبين الأرقام التالية والشكل التالي أمثلة النمو الحضري الكبير في بعض مدن أوروبا والولايات المتحدة واليابان1:
المدينة عدد السكان حوالي سنة 1800 عدد السكان حوالي سنة1960 1975
لندن 850.000 11.547.000 13.000.000
باريس 547.000 7.810.000 8.700.000
موسكو 360.000 7.884.000 9.000.000
نيويورك 60.000 14.759.000 16.200.000
طوكيو-يوكوهاما 1.400.000 13.628.000 16.000.000
وعلى ذلك فإنه يمكن القول بأن القرنين التاسع عشر والعشرين قد شهدا توسعا ضخما في العمران الحضري، ويمكن الاستنتاج مباشرة أن جذور هذا التوسع الكبير ترجع إلى عدة عوامل أبرزها استيعاب نسبة المهاجرين الذين لفظتهم المناطق الريفية.
شكل "154" نمو مدينة لندن
التضخم المدني في العصر الحديث ومظاهره:
سبق القول بأن النمو السكاني في المدن وتضخمها يعد من الظاهرات الديموغرافية المميزة في العصر الحديث بل إن النمو المدني تزايد بسرعة ملموسة خلال الـ 175 سنة الأخيرة أكثر من أي فترة زمنية سابقة في تاريخ البشرية، وساعد على ذلك الانقلاب الصناعي والزراعي وما ترتب عليهما من نمو ضخم في حركة النقل والتجارة العالمية والتي أدت إلى سهولة اتصال المدن بظهيرها والحصول على احتياجاتها من أماكن أبعد مما كانت عليه من قبل حتى إنه ليمكن القول بأن ظهير المدن في الوقت الحاضر يمتد ليشمل العالم بأسره.
ويمكن الاستدلال على تزايد النمو السكاني في المدن إذا تتبعنا نسبة سكان الحضر في العالم منذ سنة 1800 حتى 1970 كما تبين الأرقام التالية1.
النسبة المئوية لسكان المدن في العالم
المدن ذات 20.000 نسمة فأكثر
السنة
1800 2.4
1850 4.3
1900 9.2
1950 28.3
1970 37.2
ويبدو من هذه الأرقام أن نسبة السكان في المدن تتضاعف كل نصف قرن وأن سنة 1950 سجلت أعلى نسبة بالمقارنة مع السنوات السابقة، وكما سبق القول فإن سكان العالم ككل تزايد بمعدل كبير منذ سنة 1800 حتى وصلوا إلى 2000 مليون نسمة سنة 1950، ورغم ذلك فإن سكان المدن قد تزايدوا بمعدلات أسرع بكثير، ففي سنة 1800، كان هناك حوالي 15.6 مليون نسمة يقطنون مدنا ذات 100.000 نسمة فأكثر، وارتفع هذا الرقم ليصبح 313.7 مليون في سنة 1950، أي قدر الرقم الأصلي بنحو عشرين مرة، وقد نجمت معظم الزيادة عن التدفق الهجري نحو المدن الذي يتمثل في الهجرة الريفية الحضرية وهي أكثر أنماط الهجرات ضخامة في العصر الحديث.
وقد ارتبط بالنمو السكاني الحضري المرتفع تزايد في أحجام المدن القائمة والمستحدثة، فقد كان بالعالم سنة 1800 أقل من 50 مدينة فئة 100.000 نسمة فأكثر وارتفع هذا العدد إلى 900 مدينة في سنة 1950 وإلى 1300 في سنة 1962، ويبدو أن معدل النمو الحضري أخذ في التزايد على مستوى العالم ككل، وإذا استمر هذا الاتجاه بنفس المعدل فإن المدن ذات 100.000 نسمة فأكثر ستحوي أكثر من ربع سكان العالم سنة 2000 وأكثر من النصف سنة 2050. 1 وبديهي أن ذلك سيكون على حساب معدلات النمو في الريف، ذلك أنه باستمرار الاتجاه نحو ميكنة الزراعة ستقلل من أعداد الأيدي العاملة على الأرض الزراعية ومن ثم تتزايد دوافع الهجرة نحو المدن باستمرار.
وتعد المدن المليونية نماذج مجسدة للنمو الحضاري، وأرجح الظن أن العالم لم يعرفها إلا منذ سنة 1800 وذلك لأنها تعد طفرة حضارية في تاريخ البشرية ففي أوائل القرن التاسع عشر لم يكن بالعالم إلا مدينة مليونية واحدة وتزايد عددها حتى وصل إلى 11 مدينة في سنة 1900 ثم إلى 50 مدينة في سنة 1950 ثم قفر هذا العدد ليصل إلى 100 مدينة مليونية في سنة 1970 ومن جملة هذا العدد هناك 64 مدينة يربو حجم كل منها على مليوني نسمة.
وتتميز غالبية دول العالم النامي بالنمو السريع في جملة سكانها وبأن معدل تزايد سكان الحضر بها كبير بدرجة تفوق معدل النمو القومي، ففي مصر مثلا كان هناك 1.9 مليون نسمة يعيشون في المدن سنة 1897، ارتفع هذا الرقم ليصل إلى 12 مليون نسمة في سنة 1966 وارتفعت بذلك نسبة سكان الحضر إلى جملة السكان من 20% إلى 40% بين هذين التاريخين، ويبلغ معدل النمو السكاني في المدن المصرية حوالي ضعف مثيله على مستوى القطر بأكمله، وتتكرر نفس الظاهرة في كثير من الدول النامية، ففي البرازيل تزايدت المدن فئة 100.000 نسمة فأكثر من 6 مدن إلى 31 مدينة فيما بين سنتي 1920 - 1960 وارتفعت نسبة سكان هذه المدن من 8.7% إلى 18.6% من جملة السكان في الدولة في هذين التاريخين على التوالي.
وتتفاوت دول العالم في توزيع نسبة سكان المدن بها ويرجع ذلك إلى اختلاف أقاليم العالم في الأخذ بأسباب الحضارة واختلاف مقومات الحضارة ذاتها، فتسود الحضارة الصناعية في أوروبا وأمريكا الشمالية بينما تسود الحضارة الزراعية في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، وبصفة عامة فإن الحياة المدنية تظهر في كل قطر بدرجات متفاوتة وإن كانت الدول الصناعية تحظى بالنسبة العالية أكثر من 40%، بينما تقل النسبة عن ذلك كثيرا في الأقطار الزراعية النامية.
وإن نظرة إلى خريطة توزيع المدن الكبرى في العالم تبين لنا أن هناك أربع مناطق تتركز فيها هذه المدن هي:
أ- المناطق الوسطى من الشرق الأقصى خاصة فيما بين دائرتي عرض 22، 48 درجة شمالا وتشمل اليابان وكوريا وفورموزا والصين.
ب- شبه القارة الهندية، فيما بين دائرتي عرض 8 - 35 درجة شمالا.
ج- أوروبا "بما فيها الاتحاد السوفيتي الأوربي"، فيما بين دائرتي 40 - 60 درجة شمالا ويمكن أن نضيف إليها منطقة شمال أفريقيا كذلك.
د- وسط شرق أمريكا الشمالية بين دائرتي عرض 36 - 47 درجة شمالا، أي ذلك الإقليم الممتد بين مصب نهر سانت لورنس حتى غرب نطاق البحيرات العظمى ونطاق وسط الساحل الشرقي.
وبالإضافة إلى هذه الأقاليم الرئيسية نجد هناك مناطق ثانوية بها مدن كبرى وأبرز الظاهرات هنا هو أن هذه المدن في معظمها تقع على الساحل فيما عدا مدن مرتفعات المكسيك وكولومبيا -وفي بعض مناطق الشرق الأوسط- وفي روسيا السوفيتية والنطاق الشمالي الشرقي من جنوب أفريقيا.
ظهور المدن العملاقة وتضخمها:
لا يتميز العصر الحديث بنمو سكان الحضر عامة فحسب، بل بنمو المدن نموا كبيرا قفز بها إلى مرتبة المدن العملاقة التي أطلق عليها جوتمان J. Gottmann الميجالوبوليس Megalopolis "الشكل التالي" وهي ذلك التجمع العمراني في إقليم كبير حيث تلتصق أطراف المدن بعضها ببعض وتتحول في النهاية إلى مجمعة مدنية عملاقة ولعل في شمال شرق الولايات المتحدة مثلا واضحا على ذلك. فرغم أن المسافة بين مدينتي فيلادلفيا ونيويورك تصل إلى 60 ميلا وبين نيويورك وبوسطن إلى 150 ميلا، إلا أن هذه المدن قد اتصلت ببعضها البعض بسلسلة من المدن الصغيرة فيما بينها وهي امتداد للمدينة الأم في الواقع، وبهذه الطريقة ظهرت في شمال شرق الولايات المتحدة مجمعة ضخمة يعيش بها قرابة 40 مليون نسمة.
شكل "156" الميجالوبوليس الأمريكي
والمثال الآخر على الميجالوبوليس أو المجمعات الحضرية العملاقة تبدو في اليابان فيما بين أوزاكا Osaka وكوب Kobe حيث توجد سلسلة من المدن المتصلة يبلغ عددها 30 مدينة حول خليج أوزاكا وتتجه هذه الكتلة المدنية الضخمة إلى الامتداد نحو الداخل.
وتبدو هذه الظاهرة في غرب أوروبا بوضوح خاصة في إنجلترا وفي نطاق الروهر في ألمانيا وحول حوض باريس في فرنسا، ويكفي أن نذكر أن مجمعة لندن الكبرى Greater London تضم 13 مليون نسمة وأن باريس الكبرى وحدها تضم 8.7 مليون نسمة كذلك ما يقرب من 17% من سكان فرنسا ومجمعة طوكيو 16 مليون نسمة ومجمعة نيويورك وحدها تصل إلى 16.2 مليون نسمة سنة 1975.
ومن المقدر أن هناك نحو 12 مجمعة حضرية أخرى ستصل إلى نفس الأحجام سنة 1985 وهي بالتحديد: مكسيكو سيتي، وساوباولو، ولوس أنجلوس، وبمباي، وكلكتا وأوزاكا، وبيونس أيرس، وريو دي جانيرو، ومنطقة الراين - الرهر في ألمانيا، والقاهرة، وباريس، وسيول.