• !
×

rasl_essaher

الفصل الأول: الدولة ومقوماتها الجغرافية:

الفصل الأول: الدولة ومقوماتها الجغرافية:
تعد الدولة المكون الأساسي للنمط السياسي العالمي كما أنها تعد وحدة جغرافية سياسية ذات تركيب متعدد الملامح يجعلها ظاهرة فريدة بالنظر إلى مكوناتها الطبيعية التي تتمثل في مجالها الأرضي وفي العلاقات المترتبة على شغل الإنسان لهذا المجال الأرضي لتلك الدولة ذات الحدود السياسية الواضحة والعلاقات القائمة بين تلك الدولة والمناطق السياسية الأخرى في العالم.
ويمكن تقسيم الأسس الجغرافية المؤثرة والمحددة للتركيب السياسي للدولة إلى مجموعات رئيسية هي الأسس والمقومات الطبيعية ثم الأسس والعوامل الحضارية، ومن البديهي أن تختلف الدول فيما بينها في كل عنصر من هذه العناصر فبعضها عملاق المساحة والآخر قزمي في كليهما. كذلك فإن هناك دولا غنية في مواردها ومتقدمة في استغلال هذه الموارد وأخرى تعاني النقص في الموارد والاستغلال مما ينعكس على اقتصادها الوطني المتواضع ومستوى العيش المتدني لسكانها.
وينقسم سطح الأرض اليابس -باستثناء قارة انتاركتكا- إلى ما يزيد على 190 وحدة سياسية الغالبية العظمى منها مستقل ولكل من هذه الوحدات السياسية تركيب حكومي مركزي ويفصلها عن جيرانها حدود سياسية صارمة تمثل الإطار النهائي للإقليم الذي تمارس عليه الحكومة سيادتها وسيطرتها، وحتى يمكن فهم دور الأسس الجغرافية والتفاعل بينها في خلق ملامح شخصية الدولة فإنه ينبغي تناولها في ضوء العناصر الطبيعية والبشرية ومدى التفاعل بينها لخلق عناصر القوة أو الضعف في الدولة.

الأسس والعوامل الطبيعية
مدخل
...
أولا: الأسس والعوامل الطبيعية
تشمل هذه الأسس الخصائص الطبيعية للدولة وهي الموقع والحجم والشكل والمناخ ومظاهر السطح ومصادر المياه وموارد الثروة المعدنية وهذه الخصائص الطبيعية منفردة أو مجتمعة تفرض حدودا على النشاط البشري داخل منطقة محدودة كما تتيح للإنسان مجموعة من الاختيارات يختار منها ما يلائم حياته وتوفر له بعض مظاهر نشاطه البشري كما هي الحال في موارد البترول في منطقة الخليج العربي والتربة الخصبة في أوكرانيا ومصايد الأسماك في المياه المجاورة لأيسلنده وكذلك رواسب الفحم في ألمانيا التي ساعدت على التقدم الصناعي بها وتنمية قدراتها الاقتصادية، ومن الخصائص الطبيعية الموقع مثل موقع بنما في البرزخ الموصل بين الأمريكتين وبيئة الجزر اليابانية والمناخ غير الملائم للسكان في جرينلند وما شابه ذلك من خصائص ذات أهمية خاصة في وظائف الوحدات السياسية.
1- الموقع:
يعد الموقع عنصرا هاما من الخصائص الطبيعية للدولة سواء كان بالنسبة لخطوط الطول ودوائر العرض أو بالنسبة لليابس والماء أو بالنسبة للدول الأخرى أو حتى بالنسبة للموارد الطبيعية خارج حدود الدولة ذاتها، والموقع الفلكي يعد هاما في تحديد النطاق المناخي الذي تنتمي إليه الدولة أو جزء منها، ومن الواضح أنه ما من دولة تقع كلية في الأقاليم المدارية المطيرة والقطبية قد نجحت في العصر الحديث في أن تكون قوة سياسية ذات أثر عالمي والسبب الرئيسي وراء ذلك هو المناخ وما يترتب عليه من أنشطة بشرية.
وكذلك يرتبط بالموقع وقوع موارد الفحم بين دائرتي عرض 40 - 60 درجة شمالا ومن ثم توفرت للدول في هذا النطاق قاعدة هامة للتصنيع كما يرتبط بذلك موقع الدول بالنسبة للمسطحات المائية لما لهذا الموقع من تأثير على المناخ واستغلال البحار والمحيطات في أوجه النشاط التجاري والتوسع الاقتصادي والسياسي، -ولعل في موقع بريطانيا خير دليل على ذلك- ويعد الوصول للبحر هدفا ذا فوائد متعددة تسعى الدول باستمرار للوصول إليه ولذلك فإن دول العالم يمكن أن تقسم حسب الجبهات البحرية فبعض الدول له أكثر من جبهة بحرية حيث يطل على أكثر من بحر مثل الولايات المتحدة وفرنسا، وبعضها مغلق تماما مثل بوليفيا والنمسا حيث لا تصل حدودها إلى أية بحار.
والموقع بالنسبة للدول المجاورة يعد من أهم الأمور المتعلقة بالموقع، فالحدود التي تصل بين الدولة وجيرانها والمنازعات الإقليمية التي تترتب عليها تعد ذات أهمية كبرى في التطور السياسي للدولة فكانت المشكلات الإقليمية لبولنده مع جيرانها مثلا عنصرا هاما في تاريخ الدولة كوحدة قومية كذلك فإن حدود بلجيكا ظلت ثابتة منذ سنة 1839 بالرغم من وقوعها ضحية للغزو الألماني الموجه نحو فرنسا مرتين كما أن تاريخ كوريا السياسي تأثر بموقعها شبه الجزري بالنسبة لليابان والصين.
وليس هناك صعوبة في معرفة عدد الدول المجاورة لكل دولة في العالم فيكفي النظر إلى خريطة العالم السياسي لإدراك ذلك، يمكن عمل تبويب يوضح عدد جيران كل دولة ثم تجمع الدول ذات العدد المتساوي من الجيران كما توضح الأرقام التالية التي تشمل أكبر مائة دولة من حيث عدد السكان في العالم.
وأكثر الدول من حيث عدد الجيران هي ما يلي:
دول ذات 12 جارا الاتحاد السوفيتي والصين.
دول ذات 10 جيران البرازيل.
دول ذات 9 جيران ألمانيا الغربية وزائير.
دول ذات 8 جيران السودان وتنزانيا.
دول ذات 7 جيران يوغسلافيا وزامبيا ومالي والنيجر.
ومن ناحية أخرى فهناك 9 دول ليست لها جيران وهي الدول الجزرية مثل كوبا واليابان ومالاجاش.
ولا تتحدد أهمية الموقع في عدد الجيران فقط بل بمجموع عدد سكان الدول المجاورة للدولة وما يترتب على ذلك من علاقات تحكمها نسبة عدد سكان الدولة إلى مجموع سكان الدول المجاورة فدولة مثل سويسرا "6 ملايين نسمة" يجاورها ألمانيا الغربية "58 مليونا" وفرنسا "50 مليونا" وإيطاليا "52مليونا" والنمسا "7 ملايين" أي أن النسب بين سكانها وسكان الدول المجاورة هي 6: 167 أو 1: 28 وكذلك الحال في جمهورية أيرلنده ذات الثلاثة ملايين مقابل 55 مليون في بريطانيا، جارتها الوحيدة. أي النسبة 1/ 18 ومن وجهة نظر بريطانيا فإن النسبة 55: 3 اي حوالي 18: 1 وهذه النسب هي مقاييس لإمكانيات الضغوط الكامنة والشعور الدفين بتهديدات محتملة سواء من جانب الساسة أو حتى الشعوب. فتشيكوسلوفاكيا مثلا بسكانها البالغ عددهم 14 مليونا تواجه 360 مليونا "بما فيهم سكان الاتحاد السوفيتي وألمانيا الغربية" حيث تصل نسبتها إلى 1: 26، حتى إن الاتحاد السوفيتي نفسه تنخفض نسبته في مقابل الصين لتصبح 1: 4 وتصل النسبة بين سكان إسرائيل والدول العربية الأربعة المجاورة لها إلى 1: 14 أما جمهورية منغوليا الشعبية واحد مليون فتجاور الصين "920 مليونا" والاتحاد السوفيتي "236 مليونا" فلها نسبة قياسية تصل إلى 1: 1100 وهذا قدر الدولة الحاجزة دائما.
2- الحجم:
يعد هاما للدولة وذلك بالنسبة لسيطرتها السياسية والدفاعية وكلما كانت الدولة تملك مساحة أكبر تمكنها من التراجع أمام قوات الغزو كلما كان ذلك أفضل في توفر فرصها على الصمود والبقاء كما حدث للاتحاد السوفيتي أثناء الحرب العالمية الثانية الذي استغل مساحته الشاسعة في مواجهة الغزو الألماني. كذلك فإن الحجم الكبير يسمح بانتشار السكان والصناعات كأهداف حيوية داخل البلاد. ومن ناحية أخرى فإن ضخامة الحجم يعني حدودا أطول تتطلب جهودا أكثر من الدفاع الأرضي والبحري والجوي. كما أن هذه الضخامة قد تؤثر على فعالية السيطرة الداخلية وقد يضعف الاتصال بين العاصمة والمناطق البعيدة مما يشجع على إمكان وجود حركات انفصالية في الأقاليم الهامشية للدولة.التطرف في أحجام الدول "المساحة بالكيلو متر المربع"

3- الشكل:
وهو من العناصر ذات الأهمية في الدفاع والسيطرة السياسية فالدولة الضيقة -دون اعتبار لكبر مساحتها- تواجه صعوبات ومشقة في الدفاع أكثر من الدولة المندمجة، كذلك فإنه بالنسبة للتماسك السياسي الداخلي فإن الشكل الدائري ذي العاصمة المركزية في الوسط يعد ذا فائدة كبرى حيث إن المسافات بين العاصمة والمناطق الهامشية في الدولة أقل مما يمكن.
ويرتبط بالشكل بعض الظاهرات الأرضية السياسية مثل الجيب السياسي والنتوء الجبلي السياسي والقطاع السياسي ورأس الكوبري، والجيب السياسي جزء من مساحة دولة ما ويحاط كلية بأراضي دولة أخرى، وفي معظم الأحوال فإن تعبيري Enclave, Exclave يستخدمان كلفظين متبادلين فبرلين الغربية مثلا هي جيب سياسي داخل ألمانيا الشرقية كما أنه جيب سياسي خارج ألمانيا الغربية وكثير من هذه الجيوب بقايا تاريخ سياسي مضى أو كمناطق ذات وضع خاص في أعقاب حرب بين دولتين أو أكثر.
أما النتوء الجبلي السياسي فهو امتداد السيطرة الإقليمية لدولة ما عبر حدود جبلية، وكان النتوء النمساوي الجبلي في التيرول الجنوبية قبل الحرب العالمية الأولى من أشهر هذه النتوءات السياسية وكان يمتد جنوب ممر برنر الذي يعبر جبال الألب ويسكنه سكان ناطقون بالألمانية وبعد الحرب العالمية الأولى ضمت إيطاليا التيرول الجنوبي وإن كانت مشكلة السكان الناطقين بالألمانية لم تحل حلا مرضيا بعد.
وهناك ظاهرتان أخريان ترتبطان بالتطرف في شكل الدولة هما القطاع السياسي ورأس الكوبري، والقطاع هو امتداد ضيق لدولة ما ويمتد فاصلا بين دولتين أخريين إحداهما عن الأخرى مثل البروز السياسي الأفغاني المشهور بين الاتحاد السوفيتي والباكستان أما رأس الجسر "الكوبري" فهو امتداد للسيطرة الإقليمية لدولة ما عبر نهر ما ومن أمثلة ذلك رأس الجسر الهولندي عبر نهر الميز عند ماسترخت حيث تدخل السفن البلجيكية التي تستخدم الميز أراضي هولندية وتخرج منها عند هذه النقطة من النهر.
وهناك دول عديدة في العالم مثل شيلي والنرويج تتميز بالطول المفرط والعرض الضيق وكانت بنما يوما ما امتدادا شماليا ضيقا لكولومبيا وانفصلت عنها في أوائل القرن العشرين ليس بسبب تطرف موقعها ولكن لأنها شقت قناة ملاحية ربطت المحيط الأطلسي والهادي، وقد رفضت كولومبيا في بداية الأمر أن تقوم الولايات المتحدة بإنشاء هذه القناة، وليس للشكل دور مباشر كبير في الوظيفة السياسية للدولة ولكن قد يكون له أهمية غير مباشرة من خلال تأثيره على اتصال الدولة بأجزائها كما حدث في حالة انفصال باكستان الشرقية عن الغربية، وخاصة إذا كانت هذه الأجزاء المتطرفة متباينة في ظروفها الجغرافية بدرجة تخلق نوعا من النزعة الانفصالية.
4- المناخ:
يؤثر في التطور السياسي وإن كان من الصعب تحديد دوره بمفرده حيث إن المؤثرات المناخية لا يمكن فصلها عن العوامل الطبيعية والحضارية الأخرى فقد نشأت الحضارة وانتشرت خلال القرون الماضية في الأقاليم ذات المناخ الدافئ والبارد نوعا أما في العصر الحديث فإن القوى العالمية العظمى تقع في العروض الوسطى حيث تتميز باختلافات فصلية في درجة الحرارة، كما تتباين بها الأقاليم المناخية تباينا كبيرا.
ولقد تناولت آراء كثيرة المناخ الأمثل في العروض الوسطى ولا شك أن البرودة الموسمية والغابات في العروض العليا كانت عوائق في سبيل الانتشار المبكر للحضارات في الشمال -من مواقعها المدارية- واستطاع الإنسان في العصر الحديث بوسائل التقدم الفني أن يتغلب على عوائق البيئة الطبيعية، ومن المؤكد أن جذور الحضارة الغربية التي نعرفها اليوم تمتد إلى العالم اليوناني - الروماني ولكنها تطورت بعد ذلك في النطاق الشمالي الغربي لأوروبا الذي أزيلت غاباته ثم امتدت لتشمل الأراضي الجديدة في العالم الجديد ومن المعروف أن تطور حضارة معينة يرتبط بالقوة السياسية والعسكرية والاقتصادية للوحدة السياسية وتوفر العوامل الجغرافية التي تساعد على ذلك.
وعندما انتشرت الحضارة خارج مركزها في شمال غرب وشمال وسط أوروبا فإنها تأسست في تلك الأجزاء من العالم ذات المناخات الرطبة في العروض الوسطى -مشابهة للمناخ الذي وفدت منه في أوروبا، ولم تستطع المناخات المدارية الرطبة أو الواحات الصحراوية وأراضي الحشائش القصيرة "الإستبس" ولا الأصقاع الشمالية أن تجذب استقرار الشعوب الأوروبية إلى هذه الأراضي، حيث وفدوا إلى هذه المناطق للاستغلال وليس الاستيطان.
وحتى في استعمار الأقاليم الرطبة في العروض الوسطى فإن الأهداف الرئيسية للأوروبيين كانت أساسا استغلالية ولكن استغرق ذلك فترة قصيرة وفي تلك المناطق مثل كندا واستراليا والولايات المتحدة ونيوزيلند فتح الاستغلال الطريق نحو الاستيطان الدائم.
ويعد الموقع الحالي للمجتمعات الصناعية الغربية في العالم نتاجا للتفضيل البشري أكثر منه نتاجا لحدود كامنة في مناخات معينة. حيث فضل الأوروبيون أن ينقلوا حضارتهم إلى مناطق ذات مناخ العروض الوسطى وهذه الحضارة باستخدامها العظيم لمصادر الطاقة لديها وخلفياتها في المكتشفات التكنولوجية قد أسهمت في وجود أساس لدى القوى العالمية المعاصرة وفي خلال العقود العديدة الماضية كانت هناك عملية انتشار للحضارة الغربية نحو مناطق جديدة في كل العروض الوسطى والدنيا والحالة الأخيرة أي انتشار الحضارة الصناعية الغربية في المناطق شبه المدارية بقدراتها على التقدم ترتبط بمجموعة متشابكة من العوامل التي تسهم في القوة السياسية.
وبالإضافة إلى المؤثرات المناخية على توزيع مناطق القوى في العالم فإن هناك علاقات بين المناخ والتركيب السياسي للدول بمفردها وخاصة الآثار المترتبة على التنوع المناخي وأثره في القوى السياسية أو التباين في داخل الدولة ويرتبط توزيع السكان في داخل الدول بأنماط المناخ البارد أو الجاف أو الرطب أو المداري حيث يكون السكان مبعثرين في الغالب وهذا في حد ذاته عامل يؤدي إلى التعقيد السياسي للدولة وفي داخل الدولة يوجد ما يعرف بالاكيومين وهو الذي يعرف بأنه أكثر أقاليم الدولة الآهلة بالسكان وخاصة ذلك الجزء الأكثر ارتباطا بخطوط المواصلات وغالبا ما تكون المدينة العاصمة واقعة في الاكيومين أو قريبة منه حيث تتركز القوى السياسية والاقتصادية. وإذا كان السكان مركزين في منطقة محددة وصغيرة بالنسبة لمساحة الدولة كما هو الحال في الصين فإن جزءا كبيرا من هذه المساحة يمكن أن يكون غير ذي تنظيم فعال وقد تنفصل بعض أجزائه عن سيطرة العاصمة إذا ضعفت الحكومة المركزية، ومن ناحية أخرى فقد يوجد في داخل الدولة مركزين أو أكثر للسكان كما في بوليفيا تفصلهم مناطق مخلخلة السكان ويؤدي ذلك إلى وجود قوى مركزية قوية.
وتؤدي الاختلافات المناخية إلى تباين اقتصادي في الدولة مما قد يترتب عليه نزاع المصالح كما كان الحال بين الشمال والجنوب في الولايات المتحدة قبل الحرب الأهلية حيث كان الجنوب بمناخه الرطب شبه المداري معتمدا كلية على الاقتصاد الزراعي واستخدام الرقيق في الوقت الذي لم يتمتع فيه الشمال بمثل هذا النمط الاقتصادي من ناحية أخرى فإن الاختلافات الاقتصادية يمكن أن تساهم في الوحدة الوطنية كما في استراليا مثلا التي وجدت الوحدات الإقليمية مزايا في الدخول في وحدة سياسية مفردة.
5- مظاهر السطح:
ونعني بها الجبال والهضاب والتلال والسهول وهي ذات أهمية عظمى للتركيب السياسي الجغرافي للدولة فقد ينزع سكان الجبال نحو العزلة والحصول على نوع من الاستقلال "أفغانستان واندروا" بينما سكان السهول مثل الأكرانيين قد يتعرضون لتدخل خارجي ومن ثم يكون لديهم فرصة قليلة للحكم الذاتي كما أن وجود سلاسل جبلية على حدود الدولة يمكن أن يساعد على الدفاع ضد الجهات الخارجية من جيرانها ومن ثم يساعد على استقلالها فجبال البرانس بين فرنسا وإسبانيا والألب بين إيطاليا والنمسا هي أمثلة من هذا النوع التي لعبت دورا في النزاع العسكري بين الدول المتجاورة. وقد تلجأ بعض جماعات الفدائيين إلى المناطق الجبلية كما حدث في يوغوسلافيا أثناء الحرب العالمية الثانية وأيضا في شمال اليونان وكما حدث لقوات كاسترو في كوبا وفي كل هذه المناطق الجبلية الوعرة كانت السيطرة الفعالة للحكومة المركزية صعبة بل وأحيانا مستحيلة.
وهناك أحوال متعددة تؤثر فيها أشكال السطح في الوحدة الداخلية للدولة فالمناطق المرتفعة أو المنخفضة تؤثر على توزيع السكان تأثيرا كبيرا ومن ثم على موقع منطقة القلب للدولة فقد يعوق امتداد السلاسل الجبلية الاتصال بين العاصمة ومناطق الأطراف إذا كانت هذه الجبال فاصلا بينهما ونتيجة لذلك يضعف التماسك السياسي بين أجزاء الدولة. كذلك فإن الجماعات البشرية التي تقطن المرتفعات الجبلية قد تنتشر لديها أفكار وأهداف مختلفة أكثر مما لدى البيئات المنخفضة ومن ثم تخلق قوى سياسية مناوئة داخل الدولة فإكوادور مثلا توجد بها مناطق تركز في المنخفضات أو في المرتفعات ولكن المركز الرئيسي كيتو "العاصمة" في الجبال وهناك مراكز أخرى مثل جوايا كيل على الساحل توضح تضارب المصالح بين مناطق الجبال والمنخفضات داخل الدولة.
6- المجاري والمسطحات المائية:
وهي تعد ذات أهمية خاصة للدولة فالأنهار غالبا ما تكون عوامل وصل وتماسك داخل الدولة كما في نهر النيل ونهري الدجلة والفرات في العراق ومجدالينا في كولومبيا الوسطى وقد يكون للبحار دور مشابه، فعلى امتداد شواطئ بحيرة مالارن تكونت نواة سايسية نما حولها جنوب السويد مبكرا حول استكهلم كما تشابه في ذلك إلى حد ما سويسره كما حول بحيرة لوزرن ويمثل البحر عنصرا موحدا في الدول الجزرية كما هو الحال في اليابان والفلبين وإندونيسيا.
ومن ناحية أخرى فقد تكون الأنهار مثلا عنصرا مقسما للدول وليس موحدا لها فنهر ريوجراند بين الولايات المتحدة والمكسيك ونهر الآمور بين الصين والاتحاد السوفيتي وكذلك البحيرات كبحيرة إيري وبحيرة جنيف استخدمت لكي تسير معها الحدود السياسية الدولية، وقد يكون للحدود الدولية دور هام في الدفاع عن الدولة بالرغم من أن الحروب الحديثة تستطيع التغلب على العوائق الطبيعية بسرعة ولعل في عبور الحلفاء نهر الراين ضد ألمانيا في ربيع سنة 1945 وعبور القوات المصرية قناة السويس ضد إسرائيل في أكتوبر 1973 خير دليل على ذلك.
وقد يكون للمجاري المائية أهمية في النقل والتجارة وفي الري وتوليد القوى الكهربائية ويقوم نهر الفولجا في الاتحاد السوفيتي بالوظائف الثلاث بالنقل والري وتوليد القوى الكهربائية ولكي يستخدم في النقل لا بد أن يكون النهر منحدرا انحدارا هينا وأن يربط بين أقاليم ذات أهمية اقتصادية في الدولة فنهر الأمازون مثلا يصرف مياه حوض عظيم الاتساع يبدو أنه غير مسكون كذلك هناك ثلاثة أنهار رئيسية في سيبيريا السوفيتية تتجه شمالا نحو المحيط المتجمد الشمالي وهي أوب وينسي ولينا، ولقد خدمت أنهار كثيرة في الماضي التوسع السياسي لدول كثيرة كما حدث في أفريقيا في القرن التاسع عشر عندما تحددت حدود مستعمرات كثيرة بحدود أحواض الأنهار، أو مجاريها.
7- الموارد المعدنية:
وتشمل الثروات المعدنية الفلزية واللافلزية وموارد الوقود كالبترول والفحم وليست مهمة فقط كمتطلبات أساسية للمجتمعات الصناعية الحديثة ولكنها قد تكون ضمن عوامل النزاع في مناطق إقليمية وهناك دول قليلة في العالم تملك كثيرا من بعض مصادر الثروة التي يحتاجها التصنيع بكميات وافرة وتتجه الدول الصناعية مثل الولايات المتحدة وبريطانيا والاتحاد السوفيتي نحو الدول الأقل قوة مثل فنزويلا وإيران وبوليفيا، التي تحوي أراضيها مصادر ثروة كبيرة ولكي تحمي احتياجاتها من هذه الموارد فإن الدول الصناعية قد تنشئ في بعض الأوقات أشكالا متعددة من مجالات النفوذ تضم الدول الأضعف.
هذا وقد يؤدي وجود مصادر معدنية غنية في مناطق الحدود إلى منازعات مسلحة بين الدول المتجاورة وأمثلة ذلك اكتشاف رواسب النترات في صحراء أتاكاما في غرب أمريكا الجنوبية الذي أدى إلى حرب ضروس عرفت باسم حرب الباسيفكي "1879 - 1884" وشملت شيلي وبيرو وبوليفيا؛ وذلك لامتلاك هذه المنطقة.
ولا تعني مناقشة هذه الخصائص الطبيعية أن كلا منها متساوٍ في الأهمية مع العناصر الأخرى؛ ذلك لأنه في داخل الدولة فإن هذه العناصر السبعة موجودة بدرجة أو بأخرى، ولكن في كل دولة فإن عنصرا أو عنصرين فقط قد يكونا ذوي مغزى سياسي.
ثانيا: الأسس والعوامل الحضارية:
1- السكان:
يمثل السكان العنصر البشري المحوري في الجغرافيا السياسية ومشكلاتها المتعددة. ذلك لأن السكان عامل حيوي ديناميكي متحرك في دخل الوحدة السياسية وينشأ هذا التحرك في الواقع عن الزيادة الطبيعية والهجرة مما يؤثر في التركيب العمري النوعي والاقتصادي والعرقي للسكان وقد ينعكس ذلك على المشكلات العنصرية السائدة في بعض المجتمعات كذلك قد يؤدي إلى نزعة قومية تدفع بالدول إلى الاحتكاك ومن ثم تخلق المشكلات السياسية المحلية في داخل الدولة أو بينها وبين جيرانها.
ويعد السكان على درجة كبيرة من الأهمية للدولة حيث يرتبط ذلك بحجمهم وتوزيعهم وتركيبهم وليس حجم السكان في الدولة عاملا هاما في قدرتها على تلبية احتياجاتها فقط ولكن لإمكانياتها وقدراتها الكامنة كذلك. فبعض الدول تتميز بكثافة سكانية عالية مثل اليابان وهولنده وبلجيكا وبريطانيا ولا تستطيع تحقيق اكتفاء ذاتي في احتياجاتها الغذائية بالرغم من استخدام الأساليب الزراعية الحديثة. وفي مجال العلاقة بين الغذاء والسكان في الدولة فإن الدول كثيفة السكان قد تتجه إلى زيادة موارد الغذاء المحلية وتنشئ إمبراطوريات فيما وراء البحار تساعد على نموها الاقتصادي أو تقليل أعداد السكان بها بتشجيع الهجرة الخارجية على نطاق كبير نحو مناطق استيطان جديدة. أو قد تسلم في النهاية بانخفاض مستوى المعيشة لأفرادها.
ولما كان التوسع في زيادة موارد الغذاء المحلية مرتبطا بعوامل محددة في البيئة الطبيعية فإن استيراد كل احتياجات السكان يصبح أمرا لا مفر منه وخاصة إذا كان الاستيراد أرخص من الإنتاج المحلي لبعض هذه الاحتياجات.
أما البدائل الثلاثة الأخرى فلها دلائل سياسية قوية فقد اختفت الإمبراطوريات أو كادت مثل الإمبراطوريات البريطانية والفرنسية والهولندية، وكذلك أصبحت مناطق استقبال المهاجرين محددة بنظم صارمة "نظام الحصص مثلا" كما في الولايات المتحدة وكندا واستراليا أو بعوائق طبيعية كما في أجزاء من أمريكا اللاتينية وأفريقيا. كما أن الهجرة الخارجية قد تضعف من التركيب السكاني للدولة؛ وذلك لأن العناصر الشابة والطموحة هي التي تهاجر. وأخيرا فإنه ليست هناك حكومة تنتهج سياسة خفض مستمر في مستويات العيش لسكانها.
وترتبط العلاقة بين حجم السكان والقوى القومية الكامنة بتركيب السكان تفصيليا وتكنولوجيا كذلك بقدرة الحكومة على تنظيم سكانها لخدمة الدولة ويساعد التعليم والمهارات الفنية للسكان على استخدام الموارد القومية بكفاءة. ومن أمثلة التنظيم الموجه ما حدث في ألمانيا وأثناء الحرب العالمية الثانية حيث دربت الحكومة 65 مليونا من البشر من ذوي القدرات والمهارات وذلك لتحقيق الأهداف القومية ولقد كان معظم قوة ألمانيا السياسية والعسكرية خلال هذه السنوات راجعا إلى حجم وتدريب سكانها، كذلك نجاح اليابان نجاحا مذهلا في استثمار مواردها البشرية استثمارا مكنها من تعويض النقص في مورادها الاقتصادية واستطاعت بذلك أن تتبوأ مكانة رفيعة في الاقتصاد العالمي.
ويرتبط توزيع السكان بحجمهم والذي يعد بدوره هاما بالنسبة للوحدة أو التنافر الداخلي والعلاقات بين الدولة وجيرانها فالمناطق ذات الكثافة السكانية العالية تعد تأثيرا على التركيب المترابط للدولة وقد تكون مصدرا لمشكلات سياسية وعلى المجال الدولي فإن الحدود السياسية التي تخترق مناطق قليلة السكان تؤدي إلى قلة الاحتكاك بدرجة أقل منها إذا اخترقت مناطق كثيفة. كذلك فإن المناطق الآهلة بالسكان القريبة من مناطق النزاع السياسي المجاورة قد تكون ذات أهمية للدولة وخاصة في وقت الحروب؛ ذلك لأن هذه المناطق إذا تعرضت لغزو وتمت السيطرة عليها أصبحت المقاومة ضعيفة في مواجهة العدو ولعل في موقع باريس ومنطقتها بالنسبة لحدود فرنسا الشمالية الشرقية دليل على ذلك.
أما العنصر الثالث من السكان فهو تركيبهم وخاصة لغويا ودينيا وعرقيا وهناك دول تتميز بازدواج لغتها مثل كندا وبلجيكا كما أن هناك دولا تختلف أجزاؤها دينيا مثل كندا ويوغسلافيا وهولنده وإندونيسيا وأيرلنده الشمالية. والاختلافات العرقية تتمثل في جمهورية جنوب أفريقيا والولايات المتحدة. وقد يضعف وجود أكثر من لغة قومية واحدة داخل الدولة من قوتها السياسية حيث تنزع المجموعات اللغوية إلى تغير النمط السياسي السائد وتتجه إلى انفصال عن جسم الدولة وتكوين وحدة سياسية مستقلة.

بواسطة : rasl_essaher
 0  0  4559