التجانس السكاني في الدولة
التجانس السكاني في الدولة:
تعتمد الوحدة السياسية للدول على مجموعة من المقومات البشرية المرتبطة بالتركيب السكاني فيها والتي تجمع بين السكان وتكون مشتركة بينهم مؤلفة بين مشاعرهم تجاه الأرض التي تكون الإطار البيئي لهم ويدخل في عداد هذه المقومات التجانس اللغوي والديني والحضاري والعرقي بما يكفل وحدة الفكر والمشاعر.
وقد ظهرت أهمية هذه المقومات في خلق دول كثيرة في العصور القديمة تجلى فيها الحرص على الروابط التي تزيد أهميتها ظروف البيئة الجغرافية الطبيعية ومن هذه الدول مصر التي أسهم النيل في إيجاد كيان طبيعي ترتكز عليه المقومات البشرية للدولة بها.
على أن دراسة التجانس السكاني تستتبع دراسة الجنس والتوزيع اللغوي والديني ثم تحديد دور كل من هذه العناصر في الكيان السياسي؛ ذلك لأن كثيرا من المشكلات السياسية المحلية والدولية ترجع في الغالب لتباين في التركيب السلالي أو الديني أو القومي.
والجنس اصطلاح علمي غير محدد يطلق على مجموعة من البشر لهم صفات طبيعية خاصة مثل لون البشرة، وملامح الوجه، وشكل الرأس، وغير ذلك من الصفات الظاهرة التي يتخذها علماء الأجناس أساسا لتصنيف السكان إلى أجناس وربما كان التقسيم المألوف إلى قوقازي ومغولي وزنجي هو أبسط تقسيم للسكان إلى أجناس رئيسية.
وقد سيطرت فكرة سيادة بعض الأجناس على أذهان بعض الساسة حيث أقاموا سياستهم على أساس بعض الخرافات الجنسية مثل خرافة التفوق الجنسي في ألمانيا النازية حيث كان هتلر من المؤمنين بأسطورة الجنس الآري، وما اشتملت عليه من تفوق النورديين على كل من عداهم من الناحيتين العقلية والبدنية وقد كان لهذا الاعتقاد نتائجه الخطيرة حيث يفسر الطريقة التي سار عليها الرايخ الثالث في معاملته للأجناس الأوروبية المنحطة في نظره وما أنزله بها من ألوان الاضطهاد والتعذيب. كذلك لم يترك قادة اليابان قبل هزيمتها في الحرب العالمية الثانية فرصة إلا وأكدوا فيها وجوب تقديس إمبراطورهم والرسالة المقدسة التي تقوم بها حكومته مما جعل الكثير من الجنود اليابانيين يؤمنون إيمانا راسخا بأنهم رسل الإمبراطور في إبلاغ رسالته إلى الباسفيك والشرق الأقصى.
كذلك أدى وجود الزنوج في الولايات المتحدة إلى خلق ما يعرف بالمشكلة العنصرية، ويأخذ التعصب ضد الزنوج في التضاؤل في أمريكا اللاتينية حيث يتمتع زنوج البرازيل بحقوق وامتيازات يحسدهم عليها زنوج الولايات المتحدة الذين يعانون من التفرقة العنصرية معاناة شديدة.
ولكن ينبغي الإشارة في هذا المجال إلى أن السلالة أو الجنس لا تعتبر عاملا حتميا للتجانس السكاني للدولة، ذلك لأن توزيع السلالة الواحدة قد يكون كبيرا بدرجة لا تسمح بنوع من التجانس المحلي القائم على مقومات أخرى حضارية كاللغة والدين وأسلوب الحياة بل إن السلالة الواحدة قد تضم سلالات فرعية تختلف دياناتها أو لغاتها وأسلوب حياتها كذلك فإن حركة السكان الدائبة والتي ازدادت في العصر الحديث أدت إلى اختلاط واسع وكبير انتفى معه الادعاء بالنقاء العنصري أو الجنس.
وقد أدى الادعاء بالنقاء الجنسي إلى خلق مشكلات سياسية متعددة لعل أهم مظاهرها في العصر الحديث مشكلة التفرقة العنصرية التي تتمثل في الولايات المتحدة الأمريكية بين البيض والملونين حيث مازال الرجل الأبيض يشعر باستعلاء ورقي عن الملون مما أدى إلى وجود تمزق في الهيكل السكاني يشبه مثيله في جمهورية جنوب أفريقيا وزيمبابوي حيث كانت هجرة الأوروبيين إليها مصحوبة الإحساس بالتفرقة على السكان الأصليين. وتعد الولايات المتحدة الأمريكية من الأمثلة الواضحة على الدول ذات المشكلات العنصرية حيث إن عشر عدد سكانها من الزنوج والملونين. ويعيش معظم هؤلاء في الجنوب الشرقي وهو معقل العبودية الأصلي الذي يتميز بزراعة القطن، وتتضاءل النسبة للملونين نحو الشمال قلة واضحة، ويعيش زنوج الولايات المتحدة في مستوى اقتصادي منخفض عن البيض فقد بلغ متوسط نصيب الفرد الأبيض من الدخل سنة 1965 مثلا 4800 دولار مقابل 2700 للزنجي، كما أن التمييز العنصري يشمل النواحي السياسية والاجتماعية فليس هناك سلم اجتماعي يمكن أن يصل بواسطته السود إلى مرتبة البيض.
كذلك تتكرر ظاهرة التفرقة العنصرية في جمهورية جنوب أفريقيا وذلك بالرغم من أن التركيب السكاني يختلف بها عن مثيله من الولايات المتحدة كذلك؛ لأن زنوج جنوب أفريقيا هم الأغلبية وليست هناك ولاية واحدة من ولايات البلاد يتفوق فيها البيض على الزنوج -بعكس الحال في الولايات المتحدة الأمريكية التي لا توجد بها ولاية واحدة يتفوق فيها السود على البيض. ولكن تعقيد الموقف في جنوب أفريقيا يظهر في أن معظم الأوروبيين يرجعون إلى أصل هولندي "البوير" والقليل إلى أصول بريطانية ذلك بالإضافة لوجود سكان آسيويين وآخرين مخلطين في مقاطعة الكاب وهم نتاج للأفريقيين والأوروبيين ويعمل الملونون بالأعمال اليدوية كالتعدين والأعمال المنزلية وهم يعيشون في مستوى اقتصادي منخفض وكانت نفس الظاهرة سائدة في زيمبابوي قبل استقلالها حيث كانت أقلية بيضاء من أصل بريطاني تتحكم في أغلبية زنجية، وتتملك الدولة بمعنى الكلمة حيث كانت لها الأراضي الزراعية الخصبة والمصانع والمؤسسات التجارية، وقد تغير ذلك الوضع تماما بعد الاستقلال.
أما اللغة:
فهي من أفضل الوسائل وأظهرها أثرا في خلق التجانس السكاني للدولة حيث إنه من الطبيعي أن يكون الاتفاق في اللغة عاملا هاما من عوامل توحيد الجماعات كما أن اختلافها يؤدي إلى التفرقة في الغالب. وتتميز كل من أوروبا وآسيا بتعدد لغاتها وتباينها، عكس المشاهد في أمريكا واستراليا، حيث تعتبر مشكلة اللغة أبسط المشكلات وأيسرها فالإنجليزية والإسبانية والبرتغالية هي اللغات الرئيسية في الأمريكتين مع قليل من الفرنسية في مقاطعة كوبيك بكندا، والهولندية في جزر الهند الغربية وسورينام. واستراليا لها لغة واحدة وهي الإنجليزية. كما أن الوطن العربي يتكلم بلغة واحدة هي العربية. أما الهند فهي مثل الدولة التي تتعدد فيها اللغات وإن كانت الإنجليزية هي لغتها الرسمية حيث توجد بها مئتا لغة عدا اللهجات العديدة ومن هاتين يوجد عشر لا يقل عدد من يتكلم كلا منها عن التسعة ملايين من الأنفس.
ويتحدث سكان العالم اليوم بما يقرب من ثلاثة آلاف لغة تتفاوت من اللغة الصينية والإنجليزية التي يتكلم بها مئات الملايين ولغات قبائل الأمازون في أمريكا الجنوبية وقبائل نيوغنيا وأجزاء من آسيا التي يتحدث بها جماعات قليلة العدد وقد شهد العصر الحديث انتشار استخدام لغات عالمية وتقلص لغات أخرى حتى اختفت أو أصبحت قاصرة على أقليات لغوية في أماكن عزلة بعيدة في رقعة بعض الدول.
ويعد توزيع اللغات على سطح الأرض أمرا معقدا للغاية ويندر أن تتمشى الحدود السياسية تماما مع الحد اللغوي للدولة ومعظم دول العالم لها لغة رسمية وأحيانا لغتين أو ثلاث ولذا يمكن تصنيف لغات العالم في هذا الصدد إلى أربع مجموعات:
1- بعض اللغات تتكلمها عدة دول مثل الإنجليزية والإسبانية والفرنسية والبرتغالية والألمانية والعربية.
2- بعض اللغات تستخدم في دولة واحدة فقط مثل البولندية واليابانية والأيسلندية.
3- بعض الدول تسود فيها عدة لغات مثل الاتحاد السوفيتي حوالي 150 والهند حوالي 15 لغة رئيسية والصين ودول أخرى في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية.
4- بعض اللغات توجد في دولتين أو أكثر اليوم كأقليات لغوية مثل الباسك في إسبانيا وفرنسا والكردية في منطقة الأكراد في تركيا وإيران والعراق وسوريا.
وتعاني بعض دول العالم من مشكلات لغوية أوضح أمثلة تلك أنه من بين الدول الثلاث عشرة الأوائل في حجم السكان في العالم توجد مشكلات لغوية معقدة لسبب ولآخر، ومنها الصين والهند والاتحاد السوفيتي والباكستان ونيجيريا وبعضها يعاني مشكلات أقل صعوبة مثل الولايات المتحدة "المهاجرين" والبرازيل "لغات الهنود الحمر في الأمازون" وهناك دول لا تعاني من هذه المشكلات تماما مثل اليابان وألمانيا، وبالنسبة للدول الصغرى فبعضها يتعرض لمثل تلك المشكلات اللغوية مثل بلجيكا وتشيكوسلوفاكيا وسويسرا وبعض الأقطار الأفريقية والآسيوية الأخرى.
في هذا المجال فإن دول العالم تتباين من حيث مستوى الحالة التعليمية لكل منها ففي الوقت الذي يستطيع فيه أكثر من 90% من سكان الدول المتقدمة القراءة "السكان بعد سن السابعة" فإن هناك دولا نامية لا يستطيع أكثر من 90 % من سكانها ذلك.
أما الدين:
فهو وإن كان يعتبر عاملا من عوامل التجانس السكاني للدولة إلا أنه لم يعد كما كان قديما من الأسباب التي تثار من أجلها المنازعات حيث فترت روح التعصب الديني التي كثيرا ما اشتعلت الحروب في العصور القديمة والوسطى كما حدث في الحروب الإسلامية لنشر الدين الإسلامي وفي الحروب الصليبية التي استمرت سنوات طويلة وقد حل التسامح الديني نتيجة انتشار الثقافة وتغلب المصالح الاقتصادية والسياسية على الاعتبارات الدينية، ومع ذلك فما زال للدين دور هام في حياة الدول وسياساتها؛ ذلك لأنه يعد أحد مكونات المجتمع ويستطيع أن يدعم قاعدة البناء السياسي للدولة حيث تتميز كثير من الدول بديانة واحدة كما هو الحال في كثير من الدول الإسلامية والمسيحية والهندوكية والبوذية.
وقد تنقسم المجموعة الدينية إلى عدة مذاهب أو طوائف مما يزيد من تعقد المشكلات السياسية والقومية كذلك فإن للدين آثاره في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للشعوب.
ويتميز توزيع الأديان في العالم بالانتشار في مساحات واسعة. فالمسيحية بمذاهبها الثلاثة: البروتستانتية والكاثوليكية والأرثوذكسية، هي الديانة الغالبة في الأمريكتين واستراليا وأوروبا وبعض الدول الأفريقية وقد كان انقسام أوروبا إلى عدد من العقائد الدينية المختلفة عاملا هاما في تشكيل طباع وسلوك شعوبها وفي زيادة قوة الشعور الوطني المحلي بها، ويسود المذهب المسيحي الكاثوليكي معظم دول القارة مثل إيطاليا وفرنسا وبلجيكا وشبه جزيرة أيبيريا وفي أيرلنده والنمسا والمجر وشمال يوغسلافيا ومعظم تشيكوسلوفاكيا وكل بولنده وجنوب ألمانيا وليتوانيا وجنوب هولنده وأجزاء من سويسره، أما البروتستانتية التي نشأت في شمال ألمانيا فتعد العقيدة السائدة في الأراضي الإسكندنافية وفي فنلنده وهولنده وبريطانيا ولاتفيا وإستونيا وأجزاء من المجر ورومانيا وتشيكوسلوفاكيا وتسود الأرثوذكسية في شبه جزيرة البلقان.
وقد شهدت القارة الأوروبية منازعات ومصادمات بين هذه الطوائف الدينية ومن قبيل ذلك المنازعات بين الكروات الكاثوليك والصرب الأرثوذكس في يوغسلافيا وكما هي الحال في أيرلندا في الوقت الحاضر وما تشهده من مصادمت بين الطوائف الدينية فيها.
أما الإسلام فينتشر من جزر الهند الشرقية شرقا حتى شمال أفريقيا غربا بما في ذلك الشرق الأوسط وأجزاء من الهند وغرب الصين وبعض جزر الفلبين وتمتد الديانة البوذية من منغوليا حتى جنوب شرق آسيا. أما الديانة الهندوكية فمركزها بلاد الهند وإن كانت هذه البلاد تضم ديانات أخرى متعددة ويدين معظم الصينيين بمذهب كونفوشيوس أما العقائد البدائية فتنتشر في بعض المواطن الاستوائية في أفريقيا وبعض جهات شرق آسيا وجزر المحيط الهادي.
2- التركيب الاقتصادي
يعد البناء الاقتصادي القوي عنصرا رئيسيا من عناصر قوة الدولة فقد كان الاقتصاد الزراعي والصناعي الأمريكي من العوامل الرئيسية في انتصار الحلفاء في الحربين الأولى والثانية، كذلك مكن الاكتفاء الذاتي لألمانيا مقاومة حصار الحلفاء على السلع الاستراتيجية في كلا الحربين، وفي أوقات السلام فإن السيطرة الاقتصادية لدولة ما على دولة أخرى تحمل في طياتها سيطرة سياسية، كذلك ويؤدي التكامل الاقتصادي داخل أجزاء الدولة الواحدة إلى توفر عوامل الترابط بينها كما هي الحال في أستراليا والولايات المتحدة وكندا حيث كانت الوحدة الاقتصادية عنصرا موحدا بين أجزاء هذه الدول.
وقد ترتبط السيطرة الاقتصادية لدولة ما بسيطرة سياسية وأمثلة ذلك الإمبراطوريات السابقة حيث كان الضم السياسي مرتبطا أو ملازما للتوسع الاقتصادي للدولة المسيطرة وحتى بعد الاستقلال فإن هذه المناطق تعد مرتبطة اقتصاديا لفترة من الزمن ما لم تحصل الدولة على استقلال سياسي اقتصادي حقيقيين.
وتعتمد قوة الدولة على مواردها الاقتصادية وقدرتها على الإنتاج الصناعي سواء لأغراض السلم أو الحرب ولا تصل الدولة إلى مرتبة الدول العظمى إلا إذا توافر لديها القدر الكافي من الموارد الاقتصادية الأساسية داخل حدودها أو كان لها من القوة والنفوذ ما يضمن الحصول على هذه الموارد من مواطنها الأصلية ومثل هذا الشرط من شأنه أن يحول دون بلوغ الكثير من الدول نيل هذه المرتبة.
وليست العبرة بتوفر الموارد الاقتصادية المتنوعة في الدولة وإنما المقياس كذلك هو استغلال هذه الموارد واستثمارها بدرجة تكفل معها الرخاء للدولة في وقت السلام والقدرة على الدفاع في وقت الحرب وذلك أمر هام لأن القدرة العسكرية للدولة تعد مقياسا هاما من مقاييس عظمتها.
وتقاس المقدرة الاقتصادية للدول بعدة طرق أهمها حجم الناتج القومي أو الدخل القومي كذلك تقاس بمتوسط نصيب الفرد من الدخل أو الإنتاج القومي وليس حجم الناتج القومي كافيا هو الآخر بل العبرة هي الارتباط الأمثل بين الحجم والتقدم. ونوع الإنتاج والخدمات التي تنتج ومدى الدور الذي يؤديه كل منها للدولة سلما أو حربا.
وقدرة الدولة على التصنيع مرهونة بوجود عدة مقومات أهمها توفر المواد الأولية والقوى المحركة والتقدم العلمي ووسائل النقل وغير ذلك ولسنا في مجال الحديث عن مقومات الصناعة فذلك موضوع آخر ولكن ما يهمنا هو دراسة أثر الموارد الاقتصادية والقدرة الصناعية في تشكيل قدرة الدولة السياسية وأثرها في المجال الدولي.
ولا تتوزع الموارد الاقتصادية في العالم توزيعا عادلا حيث لا تخضع لقاعدة أو نظام وتعد الموارد الاستراتيجية أكثر الموارد في المجال السياسي وهي كثيرة ومتعددة ومعظمها من المعادن التي أهمها الكروم والمنجنيز والأنتيمون والزئبق والنيكل والكوارتز والتنجستين والقصدير والبوكسيت والنحاس والرصاص والمغنسيوم والحديد والبترول والفوسفات والبوتاس واليورانيوم والزنك، أما الموارد غير المعدنية فهي متعددة هي الأخرى منها القطن والمطاط والصوف وبعض المواد الغذائية الهامة مثل القمح والأرز وغيرها.
ولا يتركز إنتاج الموارد المعدنية في دولة واحدة -كما سبق القول- كذلك فدول العالم تختلف فيما بينها من حيث حجم إنتاج المعدن ونسبته إلى جملة الإنتاج العالمي ويتركز إنتاج الحديد الخام في الاتحاد السوفيتي حيث ينتج 25% من الإنتاج العالمي. وفي الولايات المتحدة حيث تنتج 15% من إنتاج العالم و29% من إنتاج الكروم.
وأهم المراكز الصناعية في العالم الآن أربعة الأولى تتركز في شرق أمريكا الشمالية والثانية تشمل بريطانيا وفرنسا وألمانيا وتشيكوسلوفاكيا وسويسره في الجنوب وهولنده في الشمال والمنطقة الثالثة تقع في الاتحاد السوفيتي وتشمل المنطقة حول موسكو والدوبناس في جنوب الاتحاد السوفيتي ومناطق مبعثرة في سيبيريا والرابعة تشمل شرق الصين واليابان وتعتمد الصناعة في هذه الأقاليم على مجموعة من العوامل المتشابكة والمعقدة والمتغيرة.
ويعتبر الإقليم الصناعي في شرق أمريكا الشمالية أكثر الأقاليم تقدما وتنوعا في الإنتاج وقد تجمعت عدة عوامل جعلته يحتل هذه المرتبة منها موقعه البحري على المحيط الأطلسي بموانيه المتعددة وكذلك قربه من البحيرات العظمى التي سهلت له سبل النقل للموارد الخام وكذلك نقل المنتجات الصناعية نحو الظهير الداخلي الذي يشمل كل كندا والولايات المتحدة -بل يشمل أمريكا اللاتينية إلى حد كبير- ويتخصص هذا الإقليم في مختلف الصناعات وإن كانت الصناعات الثقيلة لها الأهمية في ذلك وقد تركزت قرب حقول الفحم والطرق المائية. مثل صناعة السيارات والآلات في إقليم شيكاغو - ديترويت وصناعة المنسوجات في جنوب نيو إنجلند وغير ذلك.
أما إقليم غرب أوروبا فيشمل أجزاء من بريطانيا وفرنسا وهولنده، وبلجيكا وألمانيا وتشيكوسلوفاكيا وسويسره، ويرتبط ببعض المناطق الصناعية في إيطاليا وإسبانيا وإسكنديناوه، ويعتمد هذا الإقليم أساسا على الفحم وخاصة في إنجلترا وشمال فرنسا وألمانيا. ويقع الإقليم في معظمه مطلا على البحر وتخدمه شرايين مائية داخلية ممتازة ممثلة في الأنهار والقنوات. ويتميز هذا الإقليم بقربه من مناطق الاستهلاك في دول العالم النامي. وكذلك يتميز بوفرة الأيدي العاملة الماهرة. ويتميز بتخصصه في بعض الصناعات وإن كانت صناعاته متعددة وكثيرة في أقاليمه الفرعية المختلفة مثل الجزر البريطانية وفرنسا وبلجيكا والرهر والسار وسيليزيا العليا وشمال سويسره وليون وسهل البو حيث الصناعات الثقيلة والمنسوجات وتكرير البترول وغير ذلك.
أما الإقليم الصناعي العالمي الثالث فيتركز في الاتحاد السوفيتي ويمتد من ليننجراد ويتجه شرقا خلال الأورال وفي أجزاء من سيبيريا وجنوبا نحو البحر الأسود وتتوزع المناطق الصناعية في الاتحاد السوفيتي في عمق الدولة من ليننجراد والدونباس في الغرب إلى فلاد يفوستك نحو الشرق. وقد أنشأت الحكومة السوفيتية كثيرا من المناطق الصناعية الجديدة وذلك لأغراض استراتيجية وكذلك لتنمية بعض المناطق المختلفة من الدولة وتتخصص منطقة ليننجراد بتنقية المعادن والصناعات الخشبية والمنسوجات القطنية ومنطقة موسكو تنتج المنسوجات والآلات الزراعية وبعض الصناعات الخفيفة والمطاط. وأما إقليم الدونباس فينتج الحديد والصلب والصناعات الثقيلة وتكرير السكر والكيماويات والسيارات والسفن أما منطقة ثنية الدنيبر فتنتج الصلب وتكرر السكر والكيماويات أما جنوب الأورال فتنتج المعادن والكيماويات والورق والمنسوجات.
ويشمل الإقليم الصناعي العالمي الرابع منطقة شرق الصين واليابان حيث تنمو الصناعة فيهما بسرعة. ويتركز الإقليم الصناعي الياباني في الأجزاء الغربية والجنوبية من البلاد بين ضواحي طوكيو ونحو الغرب لمسافة 1300 كيلو متر إلى الجنوب الغربي لجزيرة كيوشو. ويتميز هذا النطاق بارتفاع نسبة سكان المدن به وبتعدد صناعاته التي اعتمدت على الحديد والفحم من ناحية وسهولة النقل من ناحية أخرى حيث الترابط الإنتاجي والنقل وثيق بين أوزاكا وطوكيو ويوكاهاما وحيث تعد كوب الميناء الرئيسي والمتخصص في بناء السفن بينما أوزاكا تتخصص في الصناعات الثقيلة والخفيفة والمنسوجات وغيرها.
وقد نهضت الصناعة اليابانية نهضة هائلة بعد الحرب العالمية الثانية وغزت أسواق العالم بمنسوجاتها وصناعاتها الكهربائية وغيرها والتي قامت على استيراد كثير من المواد الخام من الخارج.
أما الصين فتسير بخطوات واسعة نحو التصنيع وإن كان 2% من سكانها يعملون بالصناعة فقط ويتوفر بها الفحم والحديد وكثير من المعادن. كما يتوفر لها السوق الواسعة ممثلة في سكانها التسعمائة مليون وتتركز الصناعات في إنتاج وسائل الإنتاج الزراعي وغيرها من الصناعات التي تقوم في المدن الرئيسية مثل مكدن في منشوريا وتيانتسن وشنغهاي ونانكنج وكانتون.
وخارج هذه الأقاليم الصناعية العالمية الأربعة تتبعثر مناطق صناعية في بعض دول العالم الأخرى، مثل البرازيل وأستراليا والهند ومصر وقد اتجهت بعض هذه الدول نحو التصنيع لأسباب قومية واقتصادية واجتماعية، وتعتمد الصناعات في هذه الدول على المواد الخام المحلية والمساعدات الفنية والمادية من الخارج وقد استفادت استراليا والبرازيل من الأيدي المدربة التي وفدت إليها من غرب أوروبا. ويعتبر العامل القومي من دوافع التصنيع في دول العالم النامي حيث تلجأ الدول الصغرى إلى تصنيع كثير من منتجاتها حتى لا تظل معتمدة على الدول الكبرى الصناعية في أمريكا الشمالية وأوروبا.
وهكذا يبدو الدور الذي تلعبه الموارد الاقتصادية في الكيان السياسي للدول، حيث تتميز الدول المتقدمة بأنها دول صناعية في المقام الأول وحيث تعتمد على قدرتها الصناعية في بناء القوة السياسية والعسكرية. ولا شك أن الإنتاج الصناعي يعد ركيزة هامة للقدرة الوطنية وذلك لما يؤثر به في المستوى المعيشي من ناحية وفي توفير الصادرات المختلفة من ناحية أخرى. وكانت نقطة الضعف في بريطانيا دائما هي افتقارها إلى اقتصاد زراعي يكفي حاجة سكانها. وبالرغم من تعدد الإنتاج الصناعي فيها، إلا أنها قد وقعت في ضائقة غذائية شديدة أثناء الحربين العالميتين وكان من الممكن هزيمتها لو أن الحصار الذي فرضه العدو زادت وطأته قليلا واستمر لفترة أطول بل إن نظام البطاقات التموينية في بعض المنتجات الغذائية ظل معمولا به لمدة ثمان سنوات بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية.
3- نظام الحكم والإدارة:
إن شكل تركيب الحكومة -أي تقسيم الوظائف بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية وسواء كانت ديمقراطية أو ديكتاتورية- لا يدخل في مجال اهتمام الجغرافيا السياسية بل هي أمور يدرسها علم السياسة. ولكن الجغرافيا تهتم بنوع السيطرة الحكومية على جزء معين من سطح الأرض ودرجة هذه السيطرة وفعاليتها.
1- نوع السيطرة السياسية:
يتمثل الاختلاف في نوع السيطرة السياسية في وجود دول مستقلة وأخرى غير مستقلة على خريطة العالم وكذلك اختلاف أشكال التبعية والسيطرة وتشمل خريطة العالم السياسية في الوقت الحاضر قرابة 160 دولة مستقلة وبالرغم من اختلاف الارتباط السياسي بين الدول، فإن هناك أنواعا مختلفة من السيطرة السياسية تعرف بالمستعمرات والمحميات ومناطق الوصاية والمناطق الدولية والكوندومنيوم.
والمستعمرات هي مناطق محددة من سطح الأرض تمارس دولة أخرى السيطرة المباشرة عليها -ولا يملك سكانها حق تقرير المصير أو تصريف شئونهم إلا على المستويات المحلية فقط- ويرتبط اقتصادها باقتصاد الدولة الحاكمة والذي غالبا ما يوجه اقتصاد المستعمرات لصالحها. وقد تتمتع مناطق المستعمرات بنوع من الحكم الذاتي من الدولة المسيطرة فروديسيا الجنوبية "زيمبابوي الحالية" منحت هذا النوع من الحكم سنة 1923 وجيانا البريطانية "جويانا الحالية" كان لها مجلس تشريعي وتنفيذي وأيسلند ظلت مرتبطة بالدنمرك في اتحاد شخصي لمدة 36 سنة وكانت الدنمرك تسيطر سيطرة واقعية على سياستها الخارجية وكذلك بورتوريكو التي أعلنت رسميا مثل الكمنولث كإقليم ذي حكم ذاتي وتتولى الولايات المتحدة مسئوليات الدفاع عنها وسياستها الخارجية كذلك.
والمحمية هي منطقة مستعمرة يوجد فيها حاكم محلي ولكن الدفاع والشئون الخارجية والأمور المختلفة توجد في أيدي الدولة المسيطرة التي تعين الحاكم العام وكانت زنزبار وجزر سولومون البريطانية أمثلة من المحميات وكذلك بتسوانا "بتشوانا لاند سابقا" وجزر تونجا.
وقد نتج عن عصبة الأمم نظام الانتداب في سنة 1920 والذي أصبحت بمقتضاه الممتلكات الاستعمارية للدول المنهزمة في الحرب العالمية الأولى مقسمة بين بعض دول الحلفاء المنتصرة -وقد تعهدت العصبة بضمان بعض الحريات المدنية للسكان الوطنيين- وكانت الدول ذات الانتداب تقدم تقارير سنوية عن إدارة هذه الأراضي إلى الهيئة العالمية. وبإنشاء الأمم المتحدة سنة 1945 انتقل الإشراف على مناطق الانتداب إلى الأمم المتحدة تحت اسم الوصاية وبالتالي فإن الدول ذات الانتداب السابق "باستثناء اليابان وجمهورية جنوب أفريقيا" أصبحت دولا ذات وصاية وبذلك فقد أصبحت المناطق الموضوعة تحت الانتداب موضوعة تحت الوصاية وترفض جمهورية جنوب أفريقيا أن تتخلى عن وصايتها على منطقة جنوب أفريقيا "ناميبيا" وقد حصلت كثير من مناطق الوصاية السابقة على استقلالها بعد الحرب العالمية الثانية وإن كانت هناك بعض الجزر في الباسفيكي شمال خط الاستواء في المحيط الهادي ما زالت مناطق تحت وصاية الأمم المتحدة.
وأخيرا فإن هناك أشكالا من السيطرة الإقليمية الأخرى كالمناطق الدولية والكوندومنيوم ومناطق الاحتلال والقواعد العسكرية وكانت طنجة مثالا على المناطق الدولية وذلك للأهمية الاستراتيجية لمينائها، وقد كانت هناك صراعات بين القوى الأوروبية للسيطرة عليها وتكونت هيئة دولية في سنة 1925 لإدارة المدينة وانتهى وضعها الدولي في سنة 1956 حيث أعيدت إلى المغرب.
أما نظام الكوندومنيوم فهو اشتراك دولتين أو أكثر في السيطرة على منطقة ما وحكمها حكما مشتركا. ولقد كان السودان المصري الإنجليزي سابقا مثلا رئيسيا على ذلك حتى سنة 1956 وتعتبر جزر نيوهبريذر في الباسفيكي المثال الباقي على هذا النظام في العالم حيث تخضع لحكم بريطاني فرنسي مشترك.
أما مناطق الاحتلال فهي قطاعات من الدولة تبقى محتلة بقوات عسكرية لدولة أخرى وذلك لمدة محددة في أعقاب حرب بينهما، ففي سنة 1945 مثلا قسمت ألمانيا والنمسا مؤقتا إلى أربع مناطق احتلال لمدة محددة كذلك فإن اليابان وكوريا وتريستا وبعض دول شرق أوروبا كانت تحت الاحتلال العسكري لعدة سنوات بعد الحرب العالمية الثانية.
أما المناطق والقواعد العسكرية التي تمارس منها دولة ما السيطرة في داخل حدود دولة أخرى فهي نوع آخر من أنواع السيطرة وإن كان مرتبطا بمعاهدات بين الدولتين تنظمه كما هي الحال في منطقة قناة بنما التي كانت تسيطر عليها الولايات المتحدة بصفة إيجار دائم وذلك في شريط عرضه 16 كيلو مترا على جانبي القناة كما أن الولايات المتحدة تملك قواعد عديدة فوق أراضٍ تابعة لدول أخرى وإن كان للدول صاحبة الأرض حق في طلب سحب القوات الأمريكية من هذه القواعد.
2- العواصم ومنطقة القلب في الدولة:
يعد موقع ووظيفة العاصمة المركزية ومنطقة القلب من الأمور الهامة في تحديد درجة السيطرة التي تمارسها الحكومة داخل الدولة وتتكون الدولة في البداية حول نواة معينة وقد تبتعد العاصمة عن منطقة النواة. أو قد تنشأ في الدولة مناطق نويات متعددة مما يترتب عليها ظهور قوى انفصالية داخل جسم الدولة. وتعد البرازيل من الأمثلة التي انتقلت منطقة القلب بها عن النواة الأصلية على طول الساحل الشرقي بينما إسبانيا على النقيض
من ذلك حيث يوجد بها منطقتا نواة تتركز إحداهما في مدريد -العاصمة- والأخرى في برشلونة.
وقد تبقى العاصمة عند النواة الأصلية -لندن، باريس- وقد تنتقل نحو المركز السكاني الرئيسي أو تنتقل بعيدا عن النواة الأصلية وعن مركز السكان ولعل في أستراليا مثلا على ذلك حيث تقع كانبرا -العاصمة- في منتصف المسافة بين أكبر مدينتين سيدني وملبورن، كذلك اختيرت أوتاوا في موقع محايد بين المناطق الناطقة بالإنجليزية والأخرى الناطقة بالفرنسية في كندا، وعند تحليل مواقع العواصم فإن العوامل التاريخية لا يمكن تجاهلها حيث يختلف دور العاصمة في السنوات الأولى من نشأة الدولة عنها بعد ذلك وقد صنف سبيت المدن العاصمية إلى ثلاثة أنواع تبعا لوظيفتها:
1- كمركز توحيدي في اتحاد فيدرالي مثل كانبرا عاصمة استراليا.
2- كملتقى للمؤثرات الخارجية مثل لندن وارتباطها مع قارة أوروبا.
3- كعاصمة أمامية في موقع متقدم من الحدود مثل برلين ودورها في وقت ما كعاصمة في مواجهة التخوم الشرقية النشطة لألمانيا قبل الحرب العالمية الثانية.
هذا وقد تصبح العاصمة بصرف النظر عن وظيفتها الأصلية ومع بقاء موقعها ثابتا مركزا سكانيا واقتصاديا بدرجة قد تطغى على وظيفتها الأصلية، ولعل هذه صفة تميز معظم عواصم العالم اليوم.
3- شكل النظام السياسي للدولة:
يعتمد نجاح الدولة في تماسكها السياسي على نظام الحكم الداخلي بها أي سواء كان نظاما موحدا أو اتحاديا، والتمييز بينهما هو طبيعة السلطة التي تمارس السيادة على الإقليم، ففي النظام الموحد تقرر الحكومة المركزية درجة الحكم الذاتي المحلي فقد تحدد عدد وطبيعة الأقسام السياسية ذاتية الحكم ولها الحق في تعيين المسئولين في هذه الأقسام، ويميز هذا النظام دولا كثيرة في العالم ويتميز بمرونة السلطة الممنوحة
للحكومة -التي تكون حركتها أسهل في مواجهة المشكلات الطارئة. ومن مساوئ هذا النظام زيادة السلطة المركزية بدرجة كبيرة وعجز الحكومة عن معالجة الاختلافات الإقليمية داخل أجزاء الدولة الواحدة.
أما في النظام الاتحادي فإن هناك حكومة مركزية ومحلية ويستمدان قوتهما من الدستور كما هو الحال في الولايات المتحدة وكندا واستراليا وسويسره والبرازيل والأرجنتين والمكسيك والملايو ونيجيريا. ومن مميزات هذا النظام توفير قسط من الحماية ضد السلطة الزائدة للعاصمة القومية والسماح بوجود اختلافات إقليمية في الدولة. لذا فهو أنسب للدول الشاسعة المساحة متعددة القوميات.
وهناك نظام ثالث هو النظام التعاهدي وهو اتحاد ضعيف بين الدول في تعاهد متفق عليه، وللدول المنظمة في اتحاد تعاهدي حق الانسحاب منه إذا رغبت حيث يكون لكل منها شخصيته وسيادته الخاصة ولكنها تستفيد من اتحادها تعاهديا مع دولة أخرى لأغراض اقتصادية ودفاعية.