أنياب أمريكية لمواجهة التجسس الاقتصادي الصيني

غاضبة. غاضبة فعلاً، لكنها ليست متأكدة مما يجب أن تفعل حيال هذا الغضب. فالمسؤولون الأمريكيون يتهمون قراصنة الكمبيوتر الصينيين بسرقة الأسرار التجارية للشركات منذ منتصف العقد الأول من القرن الحالي، لكن خلال الأشهر القليلة الماضية بلغ الغضب نقطة انقلاب سياسية. واندفعت السرقة الإلكترونية لتصل إلى أعلى القائمة في أجندة العلاقات الأمريكية الصينية.
وتبحث إدارة الرئيس باراك أوباما، وأعضاء الكونجرس، ومراكز الأبحاث التي تقدم لهم النصح والمشورة، عن سبل لمعاقبة القراصنة من الصين وبلدان أخرى. وتدرس الآن سلسلة من العقوبات أحادية الجانب في المجالات التجارية وغيرها ضد هيئات وأفراد من الصين.
ويقول مايك روجرز، رئيس لجنة الاستخبارات في مجلس النواب الأمريكي، الذي يعمل على مشروع قانون لمعاقبة القراصنة: ''سنبدأ بإرسال رسالة إلى البلدان، خصوصاً الصين، مفادها أن هناك عواقب لما تقومون من تجسس اقتصادي. سيكون لدينا ساعة ندير عقربها إلى الأعلى وأخرى ندير عقربها إلى الأسفل. وهذا يعني أنه سيكون لدينا بعض الأنياب''. وحين يرحب أوباما بالرئيس زي جينبينج في أول لقاء رئاسي لهما اليوم، سيضغط على الرئيس الصيني بخصوص موضوع السرقة الإلكترونية.
رؤية غير واضحة
ومع أن الضغط السياسي يتصاعد على واشنطن من أجل العثور على سبل للقيام بشيء ما حول سرقة الأسرار التجارية، إلا أنها تواجه مشكلتين كبيرتين. الأولى هي أن من غير الواضح إن كان أي من الحلول المقترحة قابلاً للتطبيق. وبالنظر إلى أن الصين تنفي الادعاءات الأمريكية، فإن المحاولات الأمريكية للرد الانتقامي تنطوي على خطر التصعيد إلى حرب تجارية أوسع بين أكبر اقتصادين في العام.
ويشعر جون فيرونو، وهو نائب سابق للممثل التجاري الأمريكي، بالقلق من أن يُحْدِث تصاعد التوتر حول السرقة الإلكترونية أضراراً عميقة في النظام التجاري العالمي. ويقول: ''الركود العظيم لم يسبب اندفاعاً في الحمائية، على الرغم من توقعات كثيرين بحدوث ذلك، لكن السرقة الإلكترونية تعمل على تغيير الأمور''.
وظلت الصين تقاوم بضراوة الشكاوي الأمريكية المتزايدة حول القرصنة. وقالت في تعليق في صحيفة ''الشعب'' اليومية، التي تعبر عن رأي الحزب الشيوعي الصيني: ''كما نعلم جميعاً، الولايات المتحدة هي إمبراطورية القرصنة الحقيقية''.
وجميع الحكومات تمارس أعمال التجسس على البلدان الصديقة والمنافسة، وتركز على الخطط السياسية والقدرات العسكرية، لكن من وجهة نظر واشنطن هناك فرق حاسم بين محاولة الحصول على معلومات عسكرية حساسة وبين سرقة أسرار تجارية لتعطى بعد ذلك إلى الشركات. ويتحدث مسؤولون أمريكيون سابقون وحاليّون عن مشروع صيني يتجاوز كثيراً نطاق التجسس التقليدي، ويرون أنه استراتيجية متعمدة ومنسقة ومدعَّمة بالموارد من أجل سرقة الملكية الفكرية للشركات الأمريكية، وهي استراتيجية مستمرة منذ سنوات وتكتسب زخما الآن.
نقطة الانقلاب
وضمن جمهور سياسي أوسع، جاءت نقطة الانقلاب مع نشر تقرير في آذار (مارس) الماضي، من إعداد شركة مانديانت، وهي شركة استشارية في مجال الأمن، ذكر للمرة الأولى اسم وحدة معينة تابعة لجيش التحرير الشعبي في وسط شنغهاي، وادعى أنها كانت تسرق الأسرار التجارية للشركات الأمريكية.
وداخل الإدارة الأمريكية، تركز التفكير على تقييم استخباري جديد يبين تفاصيل التهديد الذي تواجهه القدرة التنافسية الاقتصادية الأمريكية من السرقة الإلكترونية. وللمرة الأولى وجه توم دونيلون، مستشار الأمن القومي في البيت الأبيض، إصبع الاتهام إلى بكين علناً، حين اشتكى في آذار (مارس) من الهجمات الإلكترونية ''الناشئة من الصين على نطاق لم يسبق له مثيل''.
وبعد أن حاولت واشنطن الضغط الدبلوماسي، لكن دون جدوى فيما يبدو، تبحث الآن عن أدوات جديدة. ويقول جون هَنتسمان، وهو سفير أمريكي سابق إلى الصين ترأس لجنة عالية المستوى تدعى ''اللجنة المختصة بسرقة الملكية الفكرية الأمريكية'': ''كان لزاماً علينا أن نوجد نوعاً من وسيلة الضغط التي تفيدنا في التعامل مع الصينيين بهذا الخصوص. وخلافاً لذلك، هل نحن مستعدون لدفع ثمن 20 سنة أخرى من استخدام قوتنا لتحقيق ما نريد؟''.
وأحد الاقتراحات هو تشديد القوانين التي تسمح للسلطات بحظر واردات السلع التي تتعدى على قوانين براءات الاختراع. وبحسب دنيس بلير، المدير السابق للاستخبارات الوطنية، لا بد من تغيير الإجراءات حتى تجعل من الأسرع والأسهل تقديم شكوى من هذا القبيل. ويقول: ''نحاول إكراه الشركات الصينية على الاختيار بين الدخول إلى السوق الأمريكية وبين سرقة الملكية الفكرية''.
وهناك مشروع قانون طُرِح هذا الشهر من مجموعة من أعضاء مجلس الشيوخ من الحزبين، منهم السناتور الجمهوري جون ماكين والديمقراطي كارل ليفن، يُلزِم أجهزة المخابرات بنشر قائمة بالتكنولوجيات التي سُرقت، والمنتجات التي استُخدِمت في تلك الملكية الفكرية المسروقة، والبلدان التي تقف وراء التجسس. وفي هذه الحالة ستكون الإدارة ملزمة بحظر واردات المنتجات المشتقة من السرقة الإلكترونية.
وفي شكله الأولي سيسمح مشروع القانون بصلاحيات واسعة للرد الانتقامي. مثلا، تستطيع الإدارة حظر المنتجات المصنوعة من ''شركات تسيطر عليها الدولة'' من البلدان التي يرد اسمها في القائمة، أو أية منتجات تصنعها تلك الشركات. ويجب أن تُحَمِّل الولايات المتحدة البلدان التي تنخرط في السرقة الإلكترونية المسؤولية عن نشاطاتها غير الشرعية، كما يقول جاي روكفلر، عضو مجلس الشيوخ الديمقراطي، وأحد المشاركين في مشروع القانون.
لكن محامون ومسؤولون سابقون يقولون إن النهج الذي من هذا القبيل سيكون مليئاً بالصعوبات. ذلك أن الأشخاص الذين يعلمون بالفعل ما هي الواردات المستفيدة من السرقة الإلكترونية هم الشركات الأمريكية التي سُرِقت التكنولوجيا منها، وهذه الشركات غير راغبة في الدخول في مثل هذه التحقيقات، لأن كثيراً منها يخشى عقاب السلطات الصينية. والشركات الأجنبية تواجه منذ زمن شبكة من السياسات الصناعية في الصين يمكن استخدامها لتفضيل الشركات المحلية على حسابها. صحيح أن الشركات الأمريكية بصورة جماعية تشعر بالغضب الشديد من القرصنة، لكن ليس هناك الكثير من الشركات المستعدة لتعريض رقبتها للخطر.
أسئلة صعبة
وهناك مجموعة من الأسئلة الفنية الصعبة التي يحتاج قانون من هذا القبيل إلى التعامل معها. مثلا، هل تستهدف التحقيقات المنتجات النهائية فقط، أم أنها تشتمل كذلك على سلاسل التوريد الأوسع التي يمكن أن تكون قد انتفعت من القرصنة؟ وكيف ستقيم الولايات المتحدة الدليل على أن التكنولوجيات المسروقة أُدخِلت في عملية الأبحاث والتطوير لدى الشركة الصينية؟ وهل من الممكن اتخاذ إجراء سريع بما فيه الكفاية حتى لا يكون الضرر التجاري قد وقع بالفعل؟
وإشراك أجهزة الاستخبارات في النزاعات التجارية يمكن أن يضعها في وضع غير مريح. ذلك أن مسؤولي المخابرات مدربون على إعطاء أحكام تفصيلية دقيقة حول القدرات والنوايا، وليس على إنشاء قضايا قانونية. وربما يضطرون كذلك إلى الكشف عن مصادرهم وأساليبهم. وكما يشير مسؤول سابق في وكالة الأمن القومي، فإن إحدى الطرق الأكثر فاعلية التي يستطيع مجتمع المخابرات الأمريكية استخدامها لجمع المعلومات التي من هذا القبيل، هي عن طريق القرصنة.
فضلاً عن ذلك، الصين ليست المذنب الوحيد. فقد توصلت عدة دراسات إلى أن الهيئات الصينية مسؤولة عن 50 - 80 في المائة من حالات الاختراق الموجهة نحو الشركات الأمريكية. ووفقاً لمسؤولين حكوميين سابقين، تشتمل قائمة البلدان التي تمارس هذا النوع من تجسس الشركات على بلدان تتمتع بعلاقات قوية مع الولايات المتحدة، مثل فرنسا.
ويقول كين ليبرتال، المسؤول السابق عن منطقة آسيا لدى مجلس الأمن القومي: ''سنحتاج من أجهزة استخباراتنا إلى أن تخبرنا عن البضائع التي تشتمل على ملكية فكرية مسروقة بداخلها، لكن ليس هذا مجال خبرتها''. ويضيف: ''سيكون هذاً نهجاً محفوفاً بمخاطر كبيرة، لأنه سيؤدي بسرعة إلى قرارات لا يمكن الدفاع عنها''.
حظر السفر
وهناك نهج آخر يجري النظر فيه، وهو حظر التأشيرات على المتهمين بالقرصنة. وهي الفكرة نفسها التي تقف وراء ''قائمة ماجنيتسكي''، التي أُدخِلت في السنة الماضية لمعاقبة مسؤولين روس متهمين بأنهم وراء موت سيرجي ماجنيتسكي، الذي أثار نذيرا بوجود قرصنة في روسيا.
ومن المتوقع أن يقترح روجرز مشروع قانون يحظر على القراصنة زيارة الولايات المتحدة وتجميد موجوداتهم فيها. وهو يقول: ''لا يفترض أن يجعلنا موضوع التأشيرات ندخل في حرب تجارية، لأنه موجه بالذات نحو مذنبين بعينهم. لكن لا يمكن أن نخشى من أن يؤدي بنا فرض القانون على سرقة الملكية الفكرية إلى حرب تجارية، وإلا سنظل على الطرف الخاسر في هذا المجال''.
وأظهرت أبحاث ''مانديانت'' حول قراصنة الجيش الصيني أن من الممكن التعرف على أصحاب العلاقة بصورة مباشرة، لكن حرمانهم من التأشيرات لن يكون له تأثير يذكر بالنظر إلى دورهم المتدني في النظام. ويعتقد كثير من خبراء السياسة الصينية أنه لا توجد مؤسسة واحدة تسيطر على منصات القرصنة العسكرية، بالتالي من الصعب تحديد كبار المسؤولين بصورة مباشرة.
قنبلة دبلوماسية
كذلك تسمية وإحراج كبار المسؤولين الصينيين يمكن أن يثير مخاوف سياسية، لأنهم من الناحية العملية سيوضعون في القائمة نفسها التي تضم أسماء الممنوعين، مثل مهربي المخدرات والإرهابيين ما يعتبر قنبلة دبلوماسية في الوقت ذاته الذي تسعى فيه إدارة أوباما بكل قوة لتحسين العلاقات مع الجيش الصيني من أجل إدارة التنافس في غربي الباسيفيك.
وبالنظر إلى الصعوبات الفنية والسياسية الهائلة في اتخاذ إجراء قانوني ضد القراصنة الصينيين، يعتقد بعض المراقبين أن أفضل حل عملي هو من خلال زيادة الضغط الدبلوماسي. يقول جيمس لويس، وهو مسؤول حكومي سابق يعمل لدى مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، إن على الإدارة الأمريكية أن تتعلم من تجربتها في التسعينيات حين تعرضت الصين للضغط من أجل وقف بيع التكنولوجيا النووية.
واشتمل ذلك النهج على ضمان أن يثير كل مسؤول أمريكي يلتقي مسؤولا صينيا الموضوع على رأس الأجندة. وفعلت حكومات أخرى في أوروبا وآسيا الشيء نفسه، في حين أن بعض الشركات الصينية وضعت على القائمة السوداء كذلك. ويقول: ''إذا استطعنا إقناع الأوروبيين والبلدان الآسيوية الأخرى بالتصرف معاً، عندها ربما نؤثر في تفكير الصينيين''.
ويشك ريتشارد بيجليتش، كبير الإداريين الأمنيين في مانديانت، في أن يكون للضغط السياسي وحده أي تأثير على التجسس الإلكتروني الصيني، بالنظر إلى الاستجابة للانتقادات العامة من الولايات المتحدة.
وبعد أن نشرت مانديانت تقريرها، هدأ لفترة من الزمن نشاط الوحدة رقم 61398، وهي الفريق الذي كانت تركز عليه. لكن مجموعات أخرى من القراصنة الصينيين الذين تتبع مانديانت نشاطهم واصلوا العمل كالمعتاد، وبدأت الوحدة رقم 61398 بالعمل من جديد.
ويقول بيجليتش: ''إذا أراد الصينيون إظهار حسن النية، أو إذا كانوا مهتمين بوجود علاقات أفضل مع الولايات المتحدة، كانوا سيطلبون من بعض مجموعاتهم التوقف''.
لكن ليبرتال يعتقد أن التدخل الرئاسي يمكن أن يحقق بعض الأثر. وقمة هذا الأسبوع بين أوباما وزي تعطي فرصة جيدة للولايات المتحدة لإثارة ما هو على المحك دبلوماسياً. واللقاء غير عادي، فهو لمدة يومين وفي منطقة منعزلة في كاليفورنيا مع عدد قليل من المستشارين، ما يعطي منصة للزعيمين لمناقشة صريحة لأولوياتهما وتوقعاتهما.
ويقول ليبرتال: ''سيختبر كل منهما الآخر. بالتالي ينبغي على أوباما أن يجعل هذا اللقاء اختباراً لمدى صدق زي حول رغبته في علاقات جيدة مع الولايات المتحدة. هناك أشياء كثيرة تريدها الصين من العلاقة حتى تتقدم إلى الأمام. ويحتاج أوباما إلى أن يخبر زي أنه إذا لم تشهد الولايات المتحدة تراجعاً في مستوى القرصنة، فستكون هناك عواقب''.